ارشيف من :نقاط على الحروف

صوت مصر المسروق

صوت مصر المسروق

يفضل النظام المصري، أن يُضمّن أغلب خطاباته جزءاً عن الإعلام، ودوره الذي يراه معطلًا للبناء، في بلد هُزم بلا طلقة واحدة، وكان الإعلام أحد دلائل التراجع، وصولًا إلى انزواء كامل، وتبعية مقيتة، لقوى ودول إقليمية وعالمية، نجحت في تهميش مصر، وكسر إرادتها، وكتم صوتها.

صوت مصر الحقيقي غائب عن منطقتها، في الشرق الأوسط كما تفتقد الشعوب الدور المصري، تنزف مصر ضرورات الدور والمكانة، وربما الاستمرار، لا صوت لمصر في القضايا المصيرية، التي تلتف كحبل مشنقة على العنق، في اليمن مثلًا، التي يخوض بها الغرب، سواء بشكل مباشر أو عن طريق الوكلاء من السعودية والإمارات، صراع السيطرة على البحر الأحمر، لا يدرك المخطط المصري أن وقوع اليمن سيليه فورًا وقوع قناة السويس، فالمشروع الغربي متكامل، ويهدف للسيطرة على كل الموارد وطرق التجارة، وأهمية باب المندب والقناة متكاملة، وبإمكان من يسيطر عليهما أن يرسم وحده شكل المستقبل.

النظام المصري يؤمن أن الإعلام، بصورته الحالية، يعطل مسيرته في التنمية والإصلاح، وهو ما يُعد صحيحًا، لو رجعنا بالتاريخ ستين عامًا إلى الوراء، في واحدة من حكايات أكمل نصر مصري في العصر الحديث، وقت كان الإعلام دورًا منوطًا بالدولة، ولا يترك لرجال بيزنس، كل ما يربطهم بالوطن، هو أنه المكان المناسب للإثراء، على حساب الغالبية من أهله.

العدوان الثلاثي على مصر في 1956، كما هو معروف، مرتبط بمعركة التنمية المستقلة في مصر، نظام حكم ثوري شاب يريد بناء نموذج جديد في الاستقلال، قائم على تنمية اقتصادية ـ اجتماعية شاملة، بعيدة عن السيطرة الدولية والاستقطاب، ويرتكز على الأغلبية الواسعة من جماهير شعبه.

لكن من المشاهد المرتبطة بالمعركة، والتي تم نسيانها، أو طمسها بمعنى أدق مع اختصار البعض للمعركة في التهديد السوفياتي، أو في صورة خطاب جمال عبد الناصر بالأزهر، وأهمها كيف تعامل "عبد الناصر" مع شعبه قبل الأزمة، ما الذي جعل المصريين يكتسحون صدمة مفاجأة وقوع حرب اشتركت فيها قوتان عالميتان وقتها مع الكيان الصهيوني، ما الذي دعا ملايين المصريين للتوحد في هتاف "هنحارب" فور وقوع عمليات الغزو. 

في البدء كانت الثقة، ثقة تنمو بالتجربة وتتأكد بالاختبار بين النظام السياسي القائم وشعبه الواعي، لما فشل "عبد الناصر" في توفير التمويل من البنك الدولي، لم يخرج إعلام الدولة ليبرر للمواطنين رفض البنك الدولي، ولا استعمل منطق التخدير والكذب وصرف الانتباه عن الحلم الكبير، المصارحة بما جرى كانت أساس الخطاب الإعلامي والرسمي وقتها، وهذا وضع الناس تلقائيًا أمام سؤال "وماذا بعد".

لم يكن الخطاب الأهم، وقتذاك، خطاب التأميم، لكن خطاب 23 يوليه، في هذا الخطاب قال "عبد الناصر": "سنبني السد العالي بأيدينا، سنبنيه ولو بالمقاطف"، وكان رد الفعل الشعبي المذهل في الاستجابة للتحدي هو الدافع الأكبر للتأميم.

الإعلام الحكومي، أو العام، ليس جريمة مرتكبة من شعب يبحث عن بناء بلده، بل الجريمة الحقيقية، أن تترك الدولة الساحة بالكامل، أمام تغوُّل رأس المال الخاص، والمرتبط بالخارج بالضرورة، لتشكيل وعي مشوه، يعتبر أن الأملاك العامة هي عدو، والحقيقة أن الدولة التي تختار هذا الطريق، تلقي بمستقبلها رهينة بين أيدي من يملك المال وساعات البث.

الإعلام الخاص مثل رأس المال الخاص، ليس هدفه رسالة أو دوراً، سوى تحقيق مصالح الاحتكارات الحاكمة للحظات مصر السوداء الحالية، لن يقتطع أي برنامج ولن تخصص أي قناة وقتًا لمناقشة حقيقية لحاضر أو مستقبل، وتقبل أن تخصم من رصيدها لدى النظام الحاكم، أو لدى الناهب الدولي.

الدولة الغائبة عن أداء دورها والقيام بواجبها تجاه مواطنيها، ترى في الإعلام تكلفة، لا تريد تحملها، وتؤمن به عائقًا عن فرض سيطرتها الكاملة على يوميات مصر، ظنًا أن الصحف الحكومية ـ أو التابعة ـ باستطاعتها كتابة تاريخ يخاصم الواقع بفُجر، فلا مانع أن يتحمل رجال أعمال النظام التكاليف المالية، مقابل خطاب يخدم مصالح الجميع.. الجميع هنا لا تشمل بالقطع الشعب أو الوطن.

المصري العادي، وبعد آثام الانفتاح، يؤمن أن الدولة حصن آمن، أمام تغوُّل القطاع الخاص المرتبط بالخارج، والساعي دومًا إلى مراكمة الملايين، ثم المليارات، منذ عهد أنور السادات، صاحب ضربة الانفتاح، التي أدت إلى تراجع دور الدولة كفاعل في الحياة اليومية للمصريين، وإحلال رأسمالية غير وطنية محلها، في إطار تحقيق تبعية كاملة للغرب، الولايات المتحدة خاصة، وتعميقها كلما مر الوقت.

حتى وقت قريب، قبل السقوط الكامل في حبائل التبعية، كان الفن المصري، خاصة السينما والمسلسلات، يقوم بدور هائل تجاه وعي الناس والتحديات الوطنية، وسلسلة أفلام الكاتب الكبير محمود أبو زيد، مثل "العار ـ الكيف ـ جري الوحوش ـ البيضة والحجر" التي ناقشت أزمات مجتمعية حقيقية، وقام ببطولتها نخبة من نجوم الفن المصري، لا تزال تعرض وتؤثر وتغير في مجتمعها نحو الأفضل، وهو الدور المفترض بدولة مأزومة، تريد حقًا أن تخرج من وضعها الحالي، بأي ثمن، وبكل ثمن.

2018-06-26