ارشيف من :تحقيقات

الكويز.. الكيان يحرق ’النسيج’ المصري

الكويز.. الكيان يحرق ’النسيج’ المصري

نجح اختراق الكيان الصهيوني لمصر في تحقيق ما عجزت عنه المدافع والطائرات، واحتفل الصهاينة بقلب قاهرة عبد الناصر، بعيد تأسيس كيانهم الغاصب، وسط حضور نخبة مؤثرة من رجال الأعمال المصريين، من المتنفذين والمرتبطين بمصالح تجارية مع النظام المصري والكيان الصهيوني.. "الكويز" كانت كلمة السر وراء الاختراق، والسبب الأول والأوضح لتدمير واحدة من أعرق الصناعات المصرية، الغزل والنسيج، وتشريد عمالها وغلق مصانعها.

الكويز بداية هي اتفاقية أميركية، وتعني المناطق الصناعية المؤهلة، وفلسفتها هي تسهيل نفاذ المنتجات المصرية والأردنية، إلى السوق الأميركية، بإعفاء جمركي كامل، وبغير ارتباط بنظام الحصص التصديرية، مقابل أن يدخلها نسبة من المكون الصهيوني، والصناعة في مناطق محددة، وهو نوع من الدبلوماسية التجارية، يهدف إلى دفع العلاقات الاقتصادية بين مصر والأردن والكيان، وتعميق الارتباط من مجرد علاقات سياسية على القمة، إلى علاقات بين رجال الأعمال والصناعيين.

ووفقاً لبروتوكول "الكويز" الموقع مع مصر، فإن الحكومة الأميركية تمنح معاملة تفضيلية من جانب واحد لكل المنتجات المصنعة داخل هذه المناطق، من الجانب المصري، بشرط مراعاة هذه المنتجات لقواعد المنشأ، واستخدام النسبة المتفق عليها من المدخلات الصهيونية، وهي 11.7%، والتي تم تعديلها فيما بعد إلى 10.5%، وهو التزام غير محدد المدة، وفي المقابل لا يترتب عليه أي التزام من قبل الجانب المصري ولا يستحدث أي جديد بالنسبة للعلاقات التجارية المصرية الأميركية، وبموجبه أيضا تم الاتفاق على إقامة 7  مناطق صناعية مؤهلة في مصر.

ويعني وجود المكون الصهيوني في أي سلعة مصرية تدخل أميركا، تبعًا لـ"الكويز"، ضرورة وجود اتصالات وزيارات وتعاون مشترك بين أصحاب المصانع ورجال الأعمال في مصر ونظرائهم في الكيان الصهيوني، وبذلك يتحقق الغرض الصهيوني والأميركي في ضمان الهيمنة على مصر، من خلال التحكم في اقتصادها، خاصة وإن الصناعة التي جرى التركيز عليها، وهي الغزل والنسيج، تستوعب عمالة كثيفة العدد، ولها في مصر تاريخ طويل وقديم، يسانده حاضر قوي، وهناك مدن كاملة مثل المحلة الكبرى، تشتهر بصناعات النسيج والأقمشة، بما يعني أن التراجع عن الاتفاقية مكلف جدًا، لأي حكومة تنتوي وقف التعامل مع الكيان الصهيوني.

الأمر الآخر الذي وضعه مخططو الاتفاقية نصب أعينهم، هو استبعاد المناطق التي تتركز بها المصانع الحكومية، وهي مدينتي المحلة وشبرا الخيمة، لحصر التعاون بين الكيان الصهيوني والقطاع الخاص المصري مباشرة، دون تدخل للدولة المصرية في مجريات الاتفاقات المشتركة، التي تتم برعاية وزارة الصناعة الصهيونية، والتي يحق لها شطب أو التهديد بشطب أي مصنع مصري يتلاعب بشروط "الكويز"، من وجهة نظرها، ورغم وجود إدارة للكويز بوزارة الصناعة المصرية، إلا أن دورها تالي للقرار الصهيوني.

الارتباط باقتصاد العدو

الخبير الاقتصادي، الدكتور رائد سلامة، يقول: "من الناحية المبدئية و قبل الدخول في أية تفاصيل فنية، فأنا أرفض أي علاقة اقتصادية كانت أو سياسية مع الكيان الصهيوني، باعتباره عدونا الأول، وهو أمر إذا توافرت لدينا قناعة واتفاق بشأنه، لحُسمت أمور كثيرة و لوُضعت خطوط عريضة وإستراتيجيات للتعامل مع الكيان، ومن يقف وراءه، ولكانت الإجابات بعد ذلك سهلة للغاية علي أي أسئلة.

ويضيف "سلامة"، الأهم من وجهة نظري هو الإجابة علي تساؤل أساسي: هل يُعتبر الكيان عدواً أم لا؟ فإن كانت الإجابة بنعم هو عدو (وهو كذلك بالفعل) فإن إلقاء نفسك في حضن عدوك ليفعل بك ما يشاء هو أمر يستوجب الحساب العسير لأنه يرهن قرارك برؤية عدوك، حيث سيتحكم فيك وفي قوت يومك، خاصة إذا ما ارتبطت به اقتصاديًا، وهذا هو ما يحدث في اتفاقية الكويز، التي ربطت اقتصادنا من ناحية تصدير بضائع لأمريكا بضرورة وجود مكون صهيوني في تلك البضائع، وبغض النظر عن نسبة هذا المكون فمجرد الموافقة علي هذا الشرط هو أمر غير مقبول، لأنه ينزع عنك حرية قرارك بشأن المواد الخام أو حتى الجاهزة التي تستخدم في إنتاجك، بل وحتى إمكانيات واحتمالات الربحية، فأنت مضطر أن تستورد مكونات إنتاج من الكيان، حتى وإن توافر لديك المكون المصري البديل والأرخص لأنك لن تستطيع أن تصدر لأمريكا وفقاً لهذه الاتفاقية، وبالتالي فحتى قدرتك على تحديد أرباحك صارت مرهونة بتطوير الاقتصاد الصهيوني.

وأكد "سلامة" أن الصناعة المصرية لم تستفد بشكل ملموس من الاتفاقية، التي اعتمدت بالأساس علي صناعات المنسوجات، وحجم الأعمال المرتبط بهذه الاتفاقية لا يتجاوز من 1.5 إلى 2 مليار دولار فقط، وهي حتى من هذا المنظور لا تعتبر اتفاقية ذات عوائد سخية، يمكن استخدامها كمبرر لقبول الاتفاقية سياسيًا، والارتباط المذموم بالعدو. الصناعة المصرية لو أردنا لها نجاحًا فلابد أن تكون قائمة على تصور واضح لمسألة التنمية التي يجب أن تكون مستقلة، موضحًا وبالتأكيد لا توجد تنمية غير مستقلة، وبالتالي فإن لم يكن قرارك مستقلاً فلن تستطع وضع رؤية للتنمية، وبالتالي فلن تتطور الصناعة، ولن يتم تحديث الزراعة الذين هما بالفعل الركيزتين اللتين تقام عليهما أي عملية تنمية.

وعن دلالة غياب مدينة المحلة الكبرى عن الاتفاقية، يشير "سلامة" إلى أن المحلة هي أهم مدن مصر تصنيعيًا، لارتباط الزراعة بها بالصناعة وعلى مستويات متعددة، سواء كانت صناعات صغيرة أم كبيرة، المحلة لو سُمِح لها بالانطلاق والعمل بأقصى طاقاتها الإنتاجية فلن يقل حجم التصدير من خلالها عن ملياري دولار سنويًا، وستضع مصر على الخارطة الإقتصادية بقوة في مجال المنسوجات سواء كانت داخل الكويز أم خارجه. أنا شخصياً أحمد الله علي عدم وجود المحلة ضمن المناطق المؤهلة حتى لا نربطها هي الأخرى بأعدائنا لكن الأمر يستوجب بشكل عام حتمية وجود إستراتيجية واضحة بشأن ما الذي نريده لمستقبل الصناعة في مصر وكيفية استخدام مواردنا الطبيعية وتنمية اقتصادنا بشكل حقيقي يوفر عملة أجنبية و يحول دون تحويل فائض القيمة للخارج في شكل استيراد سفيه، الأزمة الأكبر تكمن في رؤية الدولة لإمكاناتنا و كيفية إدارتها، فالأسهل لدي الحكومة المصرية حالياً و هذا يتماشي مع اتفاقها مع صندوق النقد الدولي  الذي اسميه صندوق الخراب هو مسألة الخصخصة ولا أظن أن هذا هو السبب الأساسي في عدم الاهتمام بمصانع المحلة لأجل تخسيرها ومن ثم إيجاد مبرر لخصخصتها وعندها سيكون أمر تخريب الصناعات المصرية ومزيد من ربطها باقتصاد أعدائنا أمرًا سهلا حيث ستكون العلاقة أسهل بكثير بين القطاع الخاص الذي لا يعرف ـ في أغلبه ـ سوى الربح و فقط دون النظر إلى أية اعتبارات أخرى.

ومن جانبه، يرى الباحث الاقتصادي، مجدي عبد الهادي، إن الاتفاقية لم تمنع استفادة القطاع العام من الاتفاقية "نظريًا"، لكن "عمليًا" حصرها بتلك المناطق واستبعاد المحلة منه لا يمكن أن يكون صدفةً بالتأكيد، وهو ما يعبّر عن هدفين واضحين، الأول دعم القطاع الخاص على حساب العام الذي ترفض القوى الغربية وجوده أصلاً، والثاني امتداداً له، هو الوعي بعدم سهولة استتباع ذلك القطاع العام بالدرجة ذاتها الممكن تحقيقها مع القطاع الخاص؛ وبالتالي امتلاك أوراق ضغط أقوى محليًا في صورة قوى اجتماعية مؤثرة تضغط على الحكومة للحفاظ على مصالحها المرتبطة بتلك الاتفاقية والدول المشتركة فيها، بخلاف القطاع العام التابع للحكومة، الذي يسهل على الحكومة إن أرادت، أن تضحي بمكاسبه من الاتفاقية حال تحوّلت لوسيلة ضغط، بفرض وطنية الحكومة طبعًا!

ويضيف "عبد الهادي": "بدايةً علينا أن نفهم الإطار الذي تتم فيه وعلى أساسه هذه الاتفاقات، بما فيها اتفاقية منظمة التجارة العالمية نفسها، إنه التحوّل في الهيكل الصناعي العالمي، حيث يدفع التطور في قوى الإنتاج في المراكز العالمية إلى تطاول سلاسل إنتاج القيمة العالمية، وانزلاق الأطراف البدائية من السلسلة باتجاه الدول المتخلفة بمراحلها التي تقادمت وغدت أكثر تخلفًا، أي الأقل تقنيةّ وقيمة مضافة، وهكذا تنتقل الصناعات القديمة المتخلفة والملوثة والمراحل الإنتاجية البدائية محدودة القيمة للدول المتخلفة، فيما تحتفظ الدول المتقدمة بالمراحل الأعلى قيمةً مضافة؛ لتعظم عوائدها على كل دولار استثمار؛ وهكذا فما يتم تركه لنا هو في الواقع "زبالة الصناعة"، علمًا أنه في ذات الوقت لا يتم ترك المجال واسعًا أمام الدول المتخلفة للمنافسة الواسعة فيما تجيده رغم ذلك؛ إذ يتم وضع اشتراطات وقيود تضع حدوداً وسقوفًا على إمكانات اختراقها للأسواق المتقدمة، خلافًا لقيود فرق القدرات التنافسية أساسًا".

وأوضح "عبد الهادي" أنه لم يكن من المُتوقع تحقيق استفادة نوعية حقيقية للصناعة المصرية من اتفاقية لن تفيد سوى قطاعات صناعية محدودة، معظمها صناعات خفيفة محدودة القيمة المضافة والتكنولوجيا كصناعة النسيج والملابس، فضلاً عن انخفاض الاستعداد التصديري لحوالي نصف شركات القطاع المذكور (وهذا أهم القطاعات وأكثرها استفادة من الاتفاق!) وفقًا للتقديرات وقت عقد الاتفاقية، وارتفاع نسبة المدخلات الأمريكية وأسعار المدخلات الصهيونية وفقًا لما ذكرته معظم الشركات المشتركة في الاتفاقية نفسها!

النتائج تنسف المبررات

يؤكد "عبد الهادي" أن الدراسات المؤيدة للاتفاقية ثبت أنها أولاً لم تغيّر الهيكل النوعي للصادرات، فلم تزد الصادرات الصناعية بشكل معنوي، وثانيًا لم تحقق مزايا إيجابية للميزان التجاري، فزيادة الصادرات المحدودة لحقتها زيادة في الواردات بعضها إنها ذات اتصال بها بسبب اشتراطات الاتفاق، وثالثًا وهو الأهم أن صافي المنافع من الاتفاقية لا يتوقف على مزاياه الخاصة بقدر ما يعتمد على تنمية القدرات التصديرية للصناعة المصرية ابتداءً؛ ما يؤكد الرأي المعارض بأنه لم تكن هناك ميزة حقيقية للاتفاقية، وأن خسائرها الكيفية (من تبعية وارتهان سياسيًا واقتصاديًا) أكبر من مزاياها الكمية التي استفادت منها قلة من المستثمرين المرتبطين بالمصالح الأمريكية والصهيونية.

النتائج بعد 13 عامًا من التطبيع الصناعي، تنسف كل مبررات نظام مبارك لعقد الاتفاقية، والأزمات المنتظرة كبراميل بارود تعوق أي حكومة ـ مهما كانت دوافعها ـ لإلغائها، خصوصًا مع فقر الخيال الذي يميز الإدارات البيروقراطية في مصر، فالمصانع التي تتعامل مع الكويز بلغت 980 مصنعًا، ومرشحة للزيادة، والصناعة بطبيعتها كثيفة العمالة، والأنظمة التابعة الناشئة من رحم "كامب ديفيد" متورطة بالكامل في الاستسلام، وأي بادرة غضب أميركي أو صهيوني، تترجم فورًا لتنازلات جديدة، كما فعلها الرئيس الحالي، خلال مؤتمر في محافظة أسيوط ـ جنوب مصر ـ حين عرض، متطوعًا، السلام الدافئ على الكيان الصهيوني، هكذا بلا مقابل.

وطبقًا لأرقام وزارة الصناعة المصرية، فإن صادرات الاتفاقية، منذ أول عملية تصديرية في 2005، وحتى 2016، بلغت 9 مليارات دولار في 11 عامًا، غالبيتها الساحقة تخص قطاع الملابس الجاهزة، وهو رقم هزيل للغاية، في ظل التنازلات المقدمة من جانب مصر، وغلّ يد الدولة عن التحكم في السوق المحلية، وإبعادها عن التجارة الخارجية، في قطاع حيوي للاقتصاد الوطني، بجانب تأثيره السلبي على القطاع العام، المترنح اصلًا.

وتستحوذ منتجات الملابس الجاهزة والنسيج على أغلب الصارات المصرية عبر نظام الكويز، مقابل حصة صغيرة للغاية من المنتجات الغذائية، ويأتي في مقدمة السلع المستفيدة من الاتفاقية "البنطلون الجينز والتي شيرت"، وأغلبها تُصنع تحت أسماء علامات أميركية أو عالمية، أي أن الاتفاقية ليس لها أية آثار إيجابية على صناعة الغزل والنسيج، لكنها تستفيد من رخص الأيدي العاملة العربية، مقابل الرواتب الأعلى للعمال الصهاينة.

حصة صادرات الغزل والنسيج والملابس الجاهزة المصرية بالسوق العالمية، طبقًا لإحصائيات منظمة التجارة العالمية الصادرة خلال العام الماضي، لم تتعد 0.38%، من السوق العالمية، مقارنة بالدول الأخرى مثل الصين، التي بلغت حصتها نحو 30.26%، والهند التي تبلغ حصتها نحو 3.45%، وباكستان التي تبلغ حصتها نحو 1.81%.
وتشير منظمة التجارة العالمية إلى أن تطور حصة صادرات مصر، مقارنة بدول العالم، ضعيفة للغاية، حيث تطورت حصتها من الصادرات العالمية بقطاع المنسوجات والملابس الجاهزة من 0.33% عام 1990 ثم إلى 0.32% عام 2000 ثم إلى 0.38% عام 2008، وذلك طبقاً للإحصائيات الصادرة نهاية العام الماضي، مقارنة بحصة الصادرات والمنسوجات والملابس الجاهزة الصينية من العالم، التي تضاعفت من 7.9% عام 1990 إلى 14.7% عام 2000 ثم إلى 30.26% عام 2008، وحصة صادرات الهند نحو 2.22% عام 1990 ثم 3.2% عام 2000 و3.45% عام 2008، وحصة باكستان من صادرات المنسوجات والملابس بالسوق العالمية، شكلت نحو 1.73% عام 1990، وتطورت إلى 1.88% عام 2000 ثم إلى 1.81% عام 2008.

موانع الإلغاء

وردًا على موانع إلغاء الاتفاقية، إذا كانت لا تحقق العوائد المطلوبة، يؤكد "سلامة" أن مشكلة مجتمعاتنا هي الفصل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي والتعامل مع التكاليف على حدة، الاتفاقية حتى لو حققت عوائد كبيرة من الناحية الاقتصادية هي في الواقع اتفاقية تحكمها تصورات سياسية وترتيبات دولية للإقليم العربي. إلغاء الاتفاقية أو الإبقاء عليها هو قرار سياسي بالأساس، وليس مقصورًا فقط على ما هو اقتصادي.

فيما يذهب "عبد الهادي" إلى أن الاتفاقية سياسية في المقام الأول، فما قيمة الـ 11 % مساهمة صهيونية في المنسوجات المصرية بالنسبة للاقتصاد الصهيوني الذي يفوق الاقتصاد المصري حجمًا؟ ومن باب أولى ما قيمة الـ 15 % مدخلات أميركية؟، أما بالنسبة لمصر فهي تحقق فقط مصالح تلك الطغمة الصغيرة من رجال الأعمال المستفيدين منها، والمرتبطين برأس المال الصهيوني والغربي، ولا عجب من حضور بعضهم الاحتفال الأخير للسفارة الإسرائيلية بمناسبة ذكرى تأسيس الكيان الصهيوني، ودفاعهم المستميت عن الاتفاقية والعلاقات مع الكيان، ويكفينا ما قاله رئيس الوزراء الصهيوني إيهود أولمرت عن الاتفاق من أنه "أعظم حدث منذ سنوات طويلة، والذي بموجبه سيدخل الكيان العالم العربي من أوسع أبوابه، وستكسر العزلة الاقتصادية التي تعيشها في المنطقة".

2018-07-02