ارشيف من :آراء وتحليلات

في ظل تراجع الجنيه: مصر تنتظر طوق النجاة الأميركي!

في ظل تراجع الجنيه: مصر تنتظر طوق النجاة الأميركي!

تراجع متتالي للجنيه المصري، بدأ منذ اعتماد أنور السادات للنظام الاقتصادي الحر، وتطويق منجزات ثورة يوليه (تموز) في مجالات التصنيع، وصولًا لتصفية القلاع الصناعية المصرية على مدى أعوام طويلة، والتي كانت تمثل خط الدفاع الأقوى للعملة الوطنية، التي تفقد دوريًا كل عقد نحو نصف قيمتها، أمام عملات العالم، في غياب إنتاج مصري يستطيع المقاومة، والأهم في غياب نظام وطني يدرك الإجابة الصحيحة عن التحدي القائم.

تعد مصر مستوردًا صافيًا في علاقاتها مع أغلب دول العالم، وتعتمد على 3 قطاعات لتوفير العملة الأجنبية، والمعالجة المؤقتة لعجز الموازنة، بعد اعتماد سياسة الانفتاح الاقتصادي، وهي على الترتيب تحويلات المصريين العاملين بالخارج، دخل السياحة، قناة السويس، والقطاعات الثلاثة تمثل بجلاء الاقتصاد الريعي، غير القائم على سلعة أو إنتاج، ولا يحقق قيمة مضافة للاقتصاد، وهو ما تركز عليه سياسات هيئات التمويل الدولية، المانحة للقروض، وبالتالي تفرض شروطها على صانع القرار المصري، وأول وأهم الشروط هي الانسحاب من النشاط الاقتصادي، وتصفية القطاعات المملوكة للدولة، وبالتالي تحقيق المزيد من شروط التبعية، بما يترجم في النهاية لتحويل مصر، وهي الدولة العربية الأكبر، إلى مُنفذ ـ أو خادم ـ رخيص الكلفة لخطط ومشروعات الغرب.

نعود قليلًا إلى بدايات الأزمة الاقتصادية الحالية، وهي أزمة دورية، تشهدها مصر كلما أقبلت المنطقة على مشروع أميركي جديد، في نهاية العام 1974 ـ عام التعويم ـ أصدر صندوق النقد الدولي واحدًا من أخطر تقاريره، التي تخص مصر، بعد مضي السادات بحماس في تنفيذ "روشتة" الغرب في كشف مصر بالكامل أمام التوكيلات الأجنبية للشركات الغربية متعددة الجنسيات.

(وفي الحقيقة فإنها شركات ذات جنسيات واحدة، غربية كلها، تتعدى حدود الدول، لتحقيق الاستعمار الحديث، بوسائل غير المدفع والطائرة).

في ظل تراجع الجنيه: مصر تنتظر طوق النجاة الأميركي!

في تقرير صندوق النقد، لعام 74، نلتفت لأربع نقاط حاسمة، رآها الصندوق تسبب تدهور الوضع المصري، وتستلزم علاجًا حاسمًا، وهي على الترتيب: ( زيادة في استخدام الائتمان ـ الحصول على مستلزمات الإنتاج الصناعي المتزايد من الخارج بتمويل قصير الأجل ومكلف ـ التأخير في دفع القروض الخارجية وأقساطها بما يهدد سمعة مصر المالية ـ عدم وجود سياسة اقتصادية واضحة تجذب الاستثمار المحلي والأجنبي).

كان التقرير يستهدف في المقام الأول كسر إرادة المقاومة، التي وجدها لدى حكومة عبد العزيز حجازي، واشتراكه بشكل مباشر في وضع الإطار الذي يراه مناسبًا للتشريعات الحاكمة للاقتصاد المصري، بعد وضع حكومة "حجازي" ضوابط لعملية الانفتاح في سنتها الأولى، واتجاهها لتوفير القروض من الدول الخليجية، عوضًا عن الغرب أو مؤسسات التمويل الدولية، باعتبار أفضلية الشروط الائتمانية الممنوحة.
استجاب السادات لتقرير الصندوق بالكامل، وسط احتجاجات مبكرة ضد نظام حكمه، خصوصًا في مدينة المحلة الكبرى، من عمال المصانع، وعيّن ممدوح سالم، ضابط الداخلية، كرئيس للوزراء، بهدف تنفيذ كامل شروط الصندوق، لتحقيق ما اعتبره "الإصلاح الاقتصادي" المنشود.

كانت نتيجة السير وراء صندوق النقد مأساوية، عجز فعلي عن سداد القروض وفوائدها، وزيادة ضخمة في الاستدانة لمواجهة احتياجات الاستهلاك، وبلغت القروض 6.3 مليار دولار في نهاية 1975، ارتفاعًا من 4 مليارات في نهاية 74، أي بنسبة تفوق 55% خلال عام واحد فقط، من تطبيق نصائح الصندوق واشتراطاته كافة.

وفي العام 1977، ازدادت الأزمة الاقتصادية، وباتت تمسك بخناق مصر، ومع انطلاق انتفاضة الخبر في يناير، التي كانت هبة شعبية عظيمة ردًا على سياسات نظام السادات الاقتصادية، وهددت استمرار حكمه، تدخل الصندوق فورًا ليعقد مع مصر اتفاقيتين، للحصول على قروض لمواجهة أعباء تمويل استيراد السلع، التي ارتفعت فاتورتها، دون زيادة موازية في الصادرات.

أما الثمن الذي حصلت عليه الولايات المتحدة، فكان زيارة السادات للقدس، متخليًا تمامًا عن الحقوق العربية كلها، عاريًا من المساندة الدولية للقضية، ومدمرًا لإجماع عربي نادر الحدوث، أعقب حرب تشرين 73، وانفصل العالم العربي بخروج مصر منه، وتحوّل الصراع العربي ـ الصهيوني إلى صراع عربي ـ عربي، استنزف  ـ ولا يزال ـ الإمكانات العربية، وتحقق الهدف الأميركي بخروج الاتحاد السوفياتي من قلب العالم العربي إلى أطرافه، قبل طيّ وجوده وتفكيكه التام.

ذهب السادات، وديون مصر التي ورثها من الزعيم جمال عبد الناصر 1.5 مليار دولار فقط، ارتفعت بعد حرب تشرين/ أكتوبر إلى 4 مليارات دولار، ووصلت في نهاية حكمه إلى 22 مليارًا، دون توظيفها في أية مشروعات إنتاجية، والأهم، دون أن يتحقق الرخاء الذي وعد به السادات عقب الصلح المنفرد، أو الاستسلام الكامل، أمام الصهاينة، وتولي الرئيس الأسبق مبارك الحكم في ظروف مقاطعة عربية، وصراع عالمي تقترب الولايات المتحدة من حسمه لصالحها، واستمر مبارك في السير على النهج الاقتصادي للسادات، لتنفجر الأوضاع نهاية الثمانينات، وتصل إلى ذروة الأزمة، مع تهاوي معدلات النمو إلى 3.5% عام 1988، ثم واصل انخفاضه ليسجل 2.7%، 2.3%، 1.2% في أعوام 1989، 1990، 1991، على الترتيب، ووصلت الفوائد واستحقاقات القروض المتأخرة إلى 11 مليار دولار في 1990.

تدخل صندوق النقد الدولي من جديد، ووقع مع مصر اتفاقًا جديدًا، في 1990/1991، وأسقط نادي باريس للديون نصف الديون المصرية، وكان الثمن المشاركة المصرية في حرب الخليج الثانية، بالإضافة إلى توسيع عمليات الخصخصة، والتي بدت وكإنها نارًا تحرق الشركات العامة، وبيعت الوحدات الإنتاجية الضخمة، التي تركها "عبد الناصر" كأهم وأفضل منجزاته على الإطلاق، بأبخس سعر.

وبدأت الدولة مع التسعينيات في تحول درامي هائل، من المسيطر الأكبر على السوق والتجارة الخارجية، إلى أداة لتنفيذ تعليمات مؤسسات السيطرة الدولية، وانسحبت أمام القطاع الخاص، تاركة شعبها تحت رحمة تقلبات السوق العالمية، وباتت تحت رحمة دائرة جهنمية من الاقتراض لسداد عجز الموازنة المزمن، ثم بيع الشركات العامة، ومن ثم، الخضوع للشروط السياسية الأميركية.

في ظل تراجع الجنيه: مصر تنتظر طوق النجاة الأميركي!

ومسيرة تراجع سعر صرف الجنيه المصري، بما يلقيه من ضغوط تضخمية تسحق الطبقات الأفقر، وأصحاب الدخل الثابت، يكتب النتيجة النهائية لعمليات الإصلاح التي تمت بمعرفة وإشراف صندوق النقد الدولي، منذ دخوله لمصر في 1974، فمن 35 قرشًا وقت تولي السادات الحكم، في 1970، إلى نحو 60 قرش في 1980، ثم إلى 3 جنيهات كاملة في 1991، وصولًا إلى 6 جنيهات في 2011، ثم إلى 7 جنيهات وقت تولي عبد الفتاح السيسي الحكم، قبل ضربة التعويم الهائلة، ووصل الآن إلى مستويات تدور حول 18 جنيهًا.

وبدأت مسيرة السيسي مع صندوق النقد الدولي مبكرًا للغاية، بعد تفاقم الوضع الاقتصادي، عقب ثورتين في 2011 و2013، ومقاطعة عالمية للنظام الجديد –وقتذاك- وتراجع التصنيف الائتماني، وإحجام شركات البترول الأجنبية عن عمليات البحث والتنقيب، بسبب متأخرات على الحكومة المصرية، وفشل الإصلاح الجزئي للاقتصاد، الذي تلى مؤتمر شرم الشيخ لدعم وتنمية الاقتصاد في 2015، ما أنتج وضعًا يشبه وضع مصر في منتصف السبعينيات وبداية التسعينيات.

وافق صندوق النقد الدولي في 2016 على إقراض مصر 12 مليار دولار، تمثل 3 سنوات، وتخضع مصر كل عام لعملية مراجعة لسياساتها الاقتصادية، في وضع مذلّ، ليقرر الصندوق منحها الدفعة التالية، بعد تعديلات أو اشتراطات يراها.

النظام المصري القائم لم يكن صريحًا مع شعبه، في أي وقت، بخصوص حزمة شروط الصندوق، وفضل الحكم بنظام الصدمات، التي وضعت المصريين وجهًا لوجه مع أسوأ مخاوفهم، نظام يسيطر بالدبابة، ولا تجدي معه نصائح الاقتصاديين أو تخوفات الوطنيين، ويعتبر إنجازاته الحقيقية شهادة البراءة التي يمنحها الصندوق.

الشرط الأقسى لصندوق النقد الدولي، كان قيام الحكومة المصرية بتوفير 30 مليار دولار، كقروض خارجية، طوال فترة عملية الإصلاح ـ 3 سنوات ـ لتجد مصر نفسها مقابل ارتفاع مذهل في فاتورة الدين الخارجي، ليضاعف الرقم من 42 مليار دولار في 2014 إلى 82 مليار دولار الآن.

وأخطر ما يرتبط بفاتورة الدين العام هو ارتفاع الفوائد والأقساط، لتبلغ في موازنة 2018/2019، التي دخلت حيز التنفيذ الأسبوع الماضي، 817 مليار جنيه (فوائد + أقساط قروض)، كأعلى بنود الموازنة الجديدة، حيث يمثل بند الأجور نحو 260 مليارًا، وتم إلغاء دعم إسكان محدودي الدخل نهائيًا، وتخصيص نحو مليار جنيه فقط كدعم لكل مزارعي مصر.

وينتظر مصر الأسوأ في الموازنة المقبلة، إذ أن العام الحالي سيشهد زيادة جديدة بالقروض الخارجية، وسيحين وقت سداد القروض القديمة، بالإضافة إلى شهادات قناة السويس في آب/ أغسطس 2019، وتبلغ 64 مليار جنيه، بما يلقي ظلالًا من الشك حول قدرة الحكومة على الاستمرار بالنهج ذاته، وسيجعلها تتعثر في لحظة معينة عن السداد، بانتظار "ثمن سياسي" جديد، سيفرض عليها فرضًا، وستدفعه؛ إن رغبت في طرق نجاة أميركي، كما حدث بالضبط مع السادات ومبارك، في ظل سعي حثيث من إدارة "ترمب" لتمرير "صفقة القرن"، لإنهاء القضية الفلسطينية تمامًا، والتفرغ لمواجهة عسكرية مع إيران، لن يستطيع الخليج دفع كلفتها البشرية.

بالإضافة لرهان النظام المصري الحالي على تجربة بائسة للمصريين، عقب كل ثورة، حيث يسوء الحال أكثر فأكثر، فإنه يراهن أكثر على احتياج الغرب لوجوده في سدة الحكم، فأي تغيير من الشارع، بمفهومه المضاد للولايات المتحدة، والكاره لصندوق النقد ووصايته، لن يكون الخيار الأفضل لمراكز صنع القرار الغربية.

المستقبل مفتوح لكل الخيارات والسيناريوهات، فطريق أنظمة التبعية مع صندوق النقد الدولي لم يورث المصري إلا الألم والمرارة، وتدخل الغرب في كل كارثة يأتي بحزمة شروط جديدة، تخصم من إمكانيات المستقبل، وتجعل البلد الغارق يطفو، لكن دون نجاة، ليظل دومًا بحاجة لليد الغربية الممدودة للإنقاذ.. فهل نحن بانتظار تنازل مصري، بعمق وتأثير زيارة القدس أو حرب الخليج الثانية؟!

2018-07-07