ارشيف من :آراء وتحليلات
ثلاثة فيالق تستهدف المقاومة
"شبكة الفساد في هذه البلاد أكبر من شبكة الصرف الصحي !!" ـ جلال عامر
لقد عجزوا في الحروب التقليدية أن يهزموا المقاومة، فعلى أسوار قلعتها انكسرت غزواتهم مدحورة. أما الأن فإنهم يستهدفون أحجار السور ومداميكه، وما وراء السور وهنا مكمن الخطر!!. إنها ثلاثة فيالق تستهدف المقاومة أقلها شأناً الحصار المالي، فقد تأقلمت معه إلى حد غير قليل، ولعل ما ساعدها أن "مالية المقاومة" لا تأخذ مسارات نمطية، وهي منذ البداية تحطاط للأمر لأن موضوع المال قرينة وقناة تتصل بالمسائل السرية والحيوية، أما الأثنين الخطيرين الفتن، والفساد فهما موضوع نقاشنا.
الفتن
هذه الأحداث التي ظهرت ولفتتنا، في بيئة المقاومة، أو حولها ماهي إلا استعادة لروح الجاهلية في أشكالها الصحراوية حيث القبلية، بكل إفرازاتها المقيتة. إنها العصبية التي نهى عنها الإسلام وحاربها باعتبارها من قيم الجاهلية الأولى؛ والشواهد على هذا كثيرة جداً، منها على سبيل المثال قوله تعالى ذاماً أهل الحمية لغير الدين: "إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ "- (الفتح:26)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية ".
مع كل ما سبق عمل الإسلام ونبيه العظيم لتبديد هذه القبلية المتأصلة في تكوين الشخصية العربية، والتي ظهرت علاماتها الأولى بُعيد وفاته مباشرة ، وتداعت حتى ألت إلى ملكية لبني أمية ، ثم صارت هذه العصبية فيما بعد سبباً من اسباب خراب (الدولة الأموية) تتجاذبها صراعات رجالاتها المنقسمين بين قيسي ويمني من مواريث عصر ما قبل الإسلام لتقوم على انقاضها (الدولة العباسية) على ذات النسق، ومن المفارقات إن هذه العصبية "القيسية – اليمنية" امتدت حتى القرن الثامن عشر وتمظهرت بصراع "درزي ـ درزي" في جبل لبنان، بلغ ذروته الدموية في "معركة عين دراة " بين الفريقين، وبجرائها أُضعفت (الزعامة الدرزية) على جبل لبنان لتنتقل إلى (الموارنة) !. ثم منها إلى الفتنة الدرزية ـ المسيحية التي كانت وراءها دول اجنبية، وبنتيجتها خسر لبنان استقلاله واصبح تحت وصاية دولية!. وهذا درس جدير بنا ان نتأمله، وان تستعيده ذاكرتنا من باب واحد وهو باب الحكمة طلباً للعبرة بالنظر إلى أن النعرات الطائفية هي الوجه الأخر للعصبية القبلية، والعصبية القبلية باتت جسراً يعبر منه أعداء الأمة !.
تغص مراكز الأبحاث في الغرب بكتب ومدونات المستشرقين الذين زاروا بلادنا وبعضهم أقام فيها.. درسونا بدءً من ترجمة القران الكريم كما فعل البريطاني جورج سيل في القرن 18 والأبحاث الإسلامية للهولندي ادريانوس ريلند في ذات القرن. حتى الرحالة السويسري يوهان لودفيغ بوركهارت الذي عمل لصالح بريطانيا وجال في بلاد الشام ومصر والحجاز، وتشهد كتبه وصفاً دقيقاً لأحوالها بما فيها مسار القوافل وأماكن الاستراحات وعدد الحوانيت. والخلاصة ان الغرب قبل أن يأتي بلادنا استعمارا او انتداباً درسنا اجتماعياً ونفسياً وجغرافياً وتاريخياً. ومن خلال هذا الجهد العلمي حدد المفاتيح ونقاط الضعف، واخترق منها، وما زال للأســــف!
والمؤامرة علينا إنما مرت بين ايدينا ومن فوقنا ومن تحتنا وعلى جنباتنا!، وساهمت بها حكومات ما بعد الاستقلال من حيث لا تدري من خلال واقعها الذي ما انفك يُراوح بين الفساد وبين قصور الرؤية أو ضعف البصيرة في أحسن حالاتها، وفي كلا الحالين ظل الغائب الكبير إنماء الإنسان وهو عصب التنمية الحقيقي ولبنتها الأولى، وهذا أضعف مجتمعاتنا وأبقى امراض الماضي في حالة سبات ـ في أحسن الأحوال ـ حتى جاء من ايقظها. فنهضت فوجدت المناخات الخصبة والتي استولدها انتشار الفقر وغياب الحريات ، فانتشرت كما النار في الهشيم.
الفســـاد
اواخر الحقبة السوفياتية اكتشفت مخابراتها (KGB) ان احد المدراء لمجمع صناعي وبحثي كبير تصله دفعات مالية بالدولار تودع في حساب سري باسمه في احد المصارف السويسرية ، شددوا المراقبه عليه على أمل ان يجدوا مستمسكاً يدينه، ومع ذلك لم يجدو ما يمسه فيما تواصلت الدفعات على حسابه بين حين وأخر!. حتى نزلت عليه دفعة كبيرة غير مسبوقة، عندها قرروا القاء القبض عليه ومواجهته بهذه القرينة الوحيدة طلباً للتفسير، اعترف الرجل بعلاقته بـ (CIA) ، وبان مهمته كانت بكل بساطة استبعاد الناجحين عن مواقع القيادة والأذكياء عن الأبحاث، او إهمال نصائحهم. هذه الواقعة تغني عن المزيد، وفيها دليل ساطع على أن الفساد والإفساد من ادوات القوة الناعمة لإضعاف بالخصم بما يسهل معه هزيمته بأقل التكاليف. والفساد هو اخطر الأسلحة ليس وحسـب من حيث نتائجه المباشرة في المكان الذي يحل فيه، بل في أنه يتكفل بتكبير نفسه، من حيث انتشاره السريع كما السرطان ضاربا مناعة المجتمع اومنظومته القيمية، ليغدو بعدها الفساد كما حاله في لبنان" طريقة حياة" على حد تعبير الدكتور سليم الحص.
مربط الخيل
لعل من اصعب ما تواجهه المقاومة انها محاطة بهذا الجو السياسي والإجتماعي المنخور، ما يفرض عليها اضعافاً مضاعفة من الأعباء، ليس وحسب من حيث ضرورة مضاعفة الحذر تحصيناً لنسيجها الحزبي فهذا يظل بحكم تراكم الخبرات أمرٌ مقدورٌ عليه، وإنما الأساس أن المقاومة محاطة بجو غير مناسب موضوعياً، فيما المقام يستوجب مجتمعا محصناً؛ فإذا كانت "الجيوش تزحف على بطونها" كما يقول نابليون بونابرت فإن هذا يسري على المجتمعات إذا قُدٍّر لها ان تخوض حروبا طويلة الأمد وإلى أجل غير مسمى. غير أن الفساد بانيابه ومخالبه يستنزف البلد ماسكاً بمقدراته فيما الشعب يلهث وراء تامين لقمة العيش، وهي (الحالة المثالية) لتفريغ المجتمع من محتواه الوطني بتحويله إلى كتل بشرية اسيرة حاجاتها البهيمية وهذا هو المطلوب للبنانين بكل طوائفهم، بل للعرب متى نظرنا في أحوال العروبة البائسة.
إقلاق الفساد هو البداية، بما يحد من انتشاره نسبياً.. أما الحلول الكبرى فإنها مسألة مرتبطة بالتوازنات في المنطقة، منطلقين من حقيقة ان مرابط "خيل" الساسة في لبنان ليست لبنانية في الأعم الغالب.
قلنا "خيل"، ضنينين بلبنان كي لا يكون قافلةً من جِمال!.