ارشيف من :آراء وتحليلات
أوكرانيا.. تبتعد أكثر عن الناتو والاتحاد الاوروبي
كان العام 2014 فاصلاً في تاريخ الصراع بين المعسكر الاميركي وعملائه وأذنابه الاقليميين والمحليين، وبين معسكر المقاومة الاممي بزعامة روسيا وايران.
ففي تلك السنة شنت منظمة "داعش" الإرهابية هجومها الكاسح الأولي في سوريا والعراق وسيطرت على أراض واسعة وعلى منابع للنفط. وفي تلك السنة رفضت المنظمات الفاشية والقوى السياسية الأوكرانية المرتبطة بالمخابرات الاميركية، اتفاق المصالحة والتسوية بين السلطة الاوكرانية الشرعية حينذاك وبين المعارضة، وقامت بالانقلاب الدموي على الشرعية وفر الرئيس حينذاك فيكتور يانوكوفيتش الى روسيا لضمان سلامته، وأسقطت الحكومة بالقوة، وتم تعيين حكومة انقلابية، تقودها المخابرات الأميركية مباشرة، بزعامة العميل ارسيني ياتسينيوك.
وقد وقعت هذه الأحداث تحت عنوان القطيعة مع روسيا، والتوجه نحو ضم أوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي والناتو. لكن ذلك لم يمر بدون مقاومة شعبية كبيرة لا سيما في شرقي وجنوب شرقي اوكرانيا حيث الاغلبية الساحقة من السكان هم من أصول روسية أو من الناطقين باللغة الروسية. ووقع عصيان مدني في شبه جزيرة القرم (التي هي بالاساس مقاطعة روسية) وفي مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك. وأعلنت هذه المقاطعات الثلاث الانفضال عن أوكرانيا، وطلبت الانضمام الى روسيا. وقبلت روسيا عودة شبه جزيرة القرم اليها باعتبار انها بالأساس مقاطعة روسية، وأخذاً بالاعتبار الاستفتاء الشعبي الذي جرى في القرم وصوتت فيه الاغلبية لصالح العودة الى الوطن الأم روسيا. لكن روسيا لم تقبل في حينه انضمام مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك اليها، الا أنها أيدت استقلالهما بناء على الاستفتاء الشعبي فيهما. في هذه الأجواء المضطربة، أجرى الانقلابيون انتخابات رئاسية في 25 ايار 2014. وتمت الانتخابات بدون مشاركة شبه جزيرة القرم ومقاطعتي دونيتسك ولوغانسك. وفاز فيها "ملك الشوكولاطة" وصاحب شركة "روشين" لصناعة الحلويات، الاوليغارخي الموالي للغرب بيوتر بوروشينكو.
ووضع بوروشينكو أمامه تحقيق المهمات التالية:
ـ1ـ اعادة فصل شبه جزيرة القرم عن روسيا، وضمها من جديد لاوكرانيا.
ـ2ـ إلغاء اتفاقية تأجير قاعدة سيباستوبول البحرية لروسيا (التي تنتهي مدتها في الاربعينات وقابلة للتجديد) وطرد الاسطول الحربي الروسي من هناك.
ـ3ـ إخضاع مقاطعتي دونيتسك وغدانسك واعادة ضمهما بالقوة الى أوكرانيا.
ـ4ـ التعجيل بضم أوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي والى الناتو وتحويل اوكرانيا الى قاعدة عسكرية متقدمة للناتو ضد روسيا.
لكن رياح الأحداث لم تجر كما كان يشتهي بوروشينكو وطغمته. ونقدم فيما يلي ملخصاً عما جرى:
أ ـ اعطت كييف الأوامر للأسطول الأوكراني في البحر الأسود بتوجيه فوهات مدافعه نحو الاسطول الروسي وانذاره بمغادرة سيباستوبول فورا. وكانت طغمة بوروشينكو تأمل في وقوع اشتباك اوكراني ـ روسي كمقدمة لاستجلاب تدخل ناتوي ضد روسيا. وكانت قيادة الناتو تحبذ وقوع اشتباك اوكراني ـ روسي لاطلاق حملة من "النباح" المعهود ضد "العدوان الروسي!"، الا أنها كانت أعقل من أن يدخل الناتو مباشرة في اشتباك مع روسيا ستكون عواقبه وخيمة جداً ومصيرياً على جميع دول الناتو وخاصة رأس الأفعى أميركا، فتركت قيادة الناتو سلطة بوروشينكو تقلع شوكها بيديها.
ب ـ ورداً على أوامر كييف التعسفية، أعلنت غالبية جنود وضباط البحرية الاوكرانية (الذين هم من سكان القرم وشرقي اوكرانيا، الروس والناطقين باللغة الروسية)، العصيان على أوامر كييف وأنزلوا الاعلام الاوكرانية عن الصواري ورفعت الاعلام الروسية، وانضمت السفن الحربية الاوكرانية (سابقا) الى السفن الحربية الروسية في أجواء احتفالية، تعبيراً عن دعم قرار الشعب في القرم باعادة الانضمام الى روسيا. وجرى مثل ذلك في جميع الثكنات البرية والقواعد الجوية في شبه جزيرة القرم. واحتجز الجنود والضباط من سكان أواسط وغرب اوكرانيا، وتمت تسوية أوضاعهم، ثم أطلق سراحهم كي يعودوا الى عائلاتهم بألبستهم المدنية وبدون أسلحة.
ج ـ منذ ذلك الحين الى الآن، وبالرغم من جميع "الجعجعات" الفارغة، لم تجرؤ العصابات الفاشستية والسلطات الانقلابية الاوكرانية ان تطلق رصاصة واحدة ضد شبه جزيرة القرم، لأنهم يعلمون تمام العلم أن اليد التي تمتد ضد الاراضي الروسية ستقطع مع الرقبة.
د ـ انتقل العصيان أيضاً الى جميع الثكنات العسكرية والقواعد الجوية الاوكرانية في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، وتم تشكيل "جيش الدفاع الشعبي الذاتي" في كل من "الجمهورتين الشعبيتين"، وانضم الى هذا الجيش عشرات آلاف المتطوعين من عمال ومزارعين ومعلمين وأطباء وموسيقيين ومتقاعدين، وكذلك الآلاف من قوزاق الدون الروس (المعروفين بشجاعتهم وتقاليدهم القتالية) الذين انضموا الى أخوتهم قوزاق الدونباس في أوكرانيا لمحاربة الفاشست والانقلابيين أعداء الشعب الروسي.
هـ ـ أرسلت كييف القوات النظامية الاوكرانية مدعومة بالعصابات الفاشستية الدموية لاكتساح "جمهوريتي" دونيتسك ولوغانسك. لكن المقاتلين الشعبيين تصدوا للمعتدين ببسالة وكبدوهم خسائر فادحة ومنعوهم من التقدم خطوة واحدة داخل "الجمهوريتين". ونشأت بين الطرفين خطوط تماس جبهوية. وأخيرا اضطر المعتدون للقبول بوقف اطلاق النار مكرهين، وأرسل الاتحاد الاوروبي مراقبين عسكريين للاشراف على وقف اطلاق النار بين الطرفين. حينذاك وجه المعتدون تكتيكهم نحو الانتقام من المدنيين، فأخذوا يقصفون بشكل غادر بالمدفعية الثقيلة والصواريخ المجمعات السكنية والمعامل والمناجم والمستشفيات والمدارس ومحطات الوقود والساحات العامة، مما تسبب في وضع انساني صعب للغاية، واضطر مئات الالاف من المدنيين لترك بيوتهم والرحيل. واستقبلت روسيا اكثر من مليون نازح منحوا فورا الجنسية الروسية وتم توزيعهم في مختلف المدن الروسية ومنحوا جميع حقوق المواطن الروسي بالعمل والتعليم والرعاية الصحية الخ. كما ارسلت روسيا قوافل المساعدات الانسانية الى سكان المقاطعتين الصامدين، وكانت كل قافلة تتألف من مئات الشاحنات.
و ـ مضى حتى الآن أكثر من أربع سنوات على انفصال دونيتسك ولوغانسك. وجميع القوى السياسية فيهما تضع نصب عينيها الخيار بين أمرين: اما الانضمام الى روسيا، واما الاستقلال المعترف به دوليا. وفي هذه الحالة تتجه المقاطعتان الى تشكيل جمهورية مستقلة موحدة تسمى "روسيا الجديدة" (نوفا روسيا).
ز ـ تبقى أخيراً مسألة انضمام أوكرانيا الحالية (بدون القرم ودونيتسك ولوغانسك) الى الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو. وتجاه تحذيرات روسيا صرح المسؤولون الاميركيون المعنيون في أكثر من مناسبة أنه ليس على جدول أعمال حلف الناتو في المرحلة الراهنة موضوع ضم أوكرانيا الى الحلف.
وبقيت عالقة مسألة الانضمام الى الاتحاد الاوروبي.
ح ـ قبل أربع سنوات، كانت استطلاعات الرأي تقول إن الأكثرية الشعبية (اكثر من 60%) المضللة بالبروباغندا الغربية المعسولة حول "الجنة الموعودة" في الاتحاد الاوروبي، تؤيد الانضمام الى الاتحاد. فكان بوروشينكو لا يفتأ يتشدق بأنه سيجري استفتاء عاما حول الانضمام الى الاتحاد الاوروبي والناتو. لكن الاتحاد الاوروبي ذاته لم يكن مستعجلا لأن لديه معاييره وشروطه وهو على غير استعداد لان يستقبل ملايين اللاجئين الاوكرانيين الجائعين ولا أن "يحمل على ظهره" اوكرانيا الـ 40 مليونا السائرة بسرعة نحو الانهيار الاقتصادي التام بعد القطيعة مع روسيا.
مع مرور الوقت، كانت استطلاعات الرأي تشير الى الانخفاض المتواصل لنسبة مؤيدي الانضمام الى الناتو والاتحاد الاوروبي. ففي استطلاع للرأي أجرته المؤسسة العالمية للسوسيولوجيا في كييف في كانون الاول 2015 كانت نسبة مؤيدي الانضمام الى الاتحاد 58% مقابل نسبة 30% من المعارضين. وآخر استطلاع للرأي أجرته المؤسسة ذاتها سنة 2017 يشير الى أن نسبة المؤيدين انخفضت الى 47% (اقل من النصف) في حين أن نسبة المعارضين ارتفعت الى 42%. وأمام هذه اللوحة الداكنة أصيب بوروشينكو بالذعر وبلع لسانه ولم يعد يتحدث عن اجراء استفتاء عام حول الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. لكنه طبعاً لم يستسلم. مؤخرا ـ وعلى طريقة "باض الديك" ـ طلع الرئيس بوروشينكو بمبادرة يقترح فيها ادخال تعديل على الدستور للالتزام بضرورة الانضمام الى الاتحاد الاوروبي والناتو. ولكن الدستور ينص على أن أي تعديل على الدستور ينبغي أن يتم بواسطة الاستفتاء العام ايضا. أي أن بوروشينكو يهرب الآن من استفتاء صعب الى استفتاء أصعب.
والسؤال الآن هو: لقد قام الانقلاب الفاشستي والموالي للغرب في أوكرانيا بحجة تحسين أوضاعها بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي، لكن أوكرانيا سارت نحو الخراب. فمتى ستزيح أوكرانيا النفايات الفاشستية والموالية للغرب عن كاهلها وتعود للتفاهم والتعاون مع شقيقتها الكبرى روسيا، للخروج من الحفرة التي وقعت فيها؟