ارشيف من :مقالات

حين النزال كان على قدر الرجال.. فؤاد حقق حلمه

حين النزال كان على قدر الرجال.. فؤاد حقق حلمه

"جهّزتُ له أمتعة الشهادة، وغَمَرتُه.. ثم غَمَرَني، ورحل".. تتبدل نبرة أمه عند هذه الكلمات... تروي كل فصول حكايته بصوت، وبصوت آخر تنطق هذه العبارة.. كلمة كلمة تقولها.. يتقطّع صوتها، وكأنها اللحظة.. وكأنه أمامها الآن.. يخال لك المشهد كاملاً، بتفاصيله.. أمٌّ تغمر طفلها، ويغمرها.

• احتدام النزال

كان النزال في الجرود على أشده.. صيحات المقاومين تتردد انتصارات.. هي معركة الايمان كله مع الكفر كله.. مجاهدو المقاومة يسطرون أروع صنوف الجهاد.. كضوء الشمس تلمع العيون عند سماع الأخبار الواردة من الميدان.. المقاومة تتقدم وتكسر شوكة الارهاب في جرود يونين ونحلة وعرسال.. الآن جاء دور الفداء، الآن حان وقت الشهادة... الآن تحديداً كان دور "أبو صالح"، لينال حلمه.

• أمي، جهزي لي "الشنطة"

لم يكد يصدق فؤاد أحمد بو حرب أن والده قد وافق على مشاركته في معركة الجرود، حتى أبلغ والدته كي تجهّز له "الشنطة".. "صباحاً سأتوجه الى الجرود" قالها وهو يطير فرحاً وحماساً.. تروي الأم بهدوء جذّاب، كيف "قفز" من نومه.. توجه اليها أولا: "صباح الخير ماما".. انتهى سريعاً من التحضير، أبلغها بأنه يريد توديع أخيه الأصغر حسن، أصر على ذلك رغم طلب أمه بأن يتركه نائماً، برر إصراره بأن: "قد لا أراه بعد".  كرر نفس المشهد مع أخته، ثم عاد ليغمر أمه مجدداً، ورحل..

• الشهيد الحنون .. كان كل شيئ

لا تعلم والدة الشهيد "أبو صالح" من أين تبدأ الحديث عنه، أو الحديث فيه.. "يقبر قلبي" تردد هاتين الكلمتين بين الدقيقة والدقيقة.. كان حنوناً، مسؤولاً، عطوفاً، شهماً، كتوماً.. تصمت قليلاً فتستجمع خلاصة القول: كان كل شيئ!

ربما لم يساعدها اختلاط المشاعر في التعبير، ماذا تقول في شهيدها الصغير. كم كان عمره عند استشهاده؟ نسأل، تجيب سريعاً: 16 عاماً و9 أشهر. هي تحفظ أيامه، كيف لا، وقد روت سنيّه بماء القلب، يوماً يوماً. وغفى أكثر من نصف عمره على يدها.

حين النزال كان على قدر الرجال.. فؤاد حقق حلمه


لا تتردد أم "الشهيد الصغير" في إظهار فخرها به، رغم حزنها عليه. تكاد لا تسمعها من الغصة عندما تقول: "اشتقت اليه". فجأة، ووسط هذا الحنين، تبتسم. ماذا تذكرتي؟ّ! تبدأ الجواب مجدداً بفاتحة الكلام عنه: "يقبرني"، وتجيب بعدها في اختصار ما استحضرته في ذاكرتها "لم يحتج فؤاد أن أتقنه الأدب، كان حريصاً في سلوكه وتصرفاته وكلامه".

تسهب أم "فؤاد الشهيد" في الحديث عن حبه وتعلّقه بإبي عبدالله الحسين (ع) . تتذكر كيف خرق صمت الجميع قبل ثلاثة أيام من استشهاده عندما سألهم: لماذا لا أذهب الى "الحسين (ع)" كلي .. جسداً وروحاً ؟؟!! تغلبها الدمعة مرة، وتغلب دمعها مرات ومرة . تعود للابتسام من خارج سياق المشهد، ما الأمر الأن؟ نسأل. تفتح هاتفها وتسمعنا صوته في رسائل صوتية كان قد أرسلها لها سابقاً. إحدى هذه الرسائل موجهة لوالده، وهو يحاول التودد اليه واستعطافه كي يسمح له بالتوجه إلى معركة تحرير الجرود. "أبو صالح" الذي تتعدى قصصه الكثيرة عمره الصغير، ترك بصمة الأخ المحبوب عند كل أصدقائه، يمكنكم أن تسألوهم عن ذلك، تختم الأُم.

• الشهيد الصديق

يعيد عبدالله – وهو صديق الشهيد أبو صالح – تكرار الصفات التي أطلقتها الأم على ابنها. حنون، شجاع، مسؤول، كتوم، لا تفارقه تلك البسمة الجميلة. يتحدث عنه ثم يتوقف. هو فؤاد الذي تردد صباحات الحي صوته. "لحظة وصول خبر الاستشهاد، توجهنا إلى الحي للتأكد"، يروي عبدالله وهو يتعثر في استجماع الكلام "الخبر صحيح، فؤاد شهيد" .. يا الله، كيف استشهد وأين .. يقفز عبدالله من فكرة إلى ذكرة عن رفيقه المجاهد، يربكه استرجاع اللحظة، وكأنها صارت لتوها .. "أصلاً لا يزال فؤاد بيننا، فنحن نذهب إلى الروضة لنتحدث إليه عن شوقنا، وفخرنا، وحبنا، وأسرارنا"، يقول عبدالله .. لكنه سرعان ما يحسم أمره، بأن أصعب لحظة في حياته كانت: "تشييع أبو صلاح – شهيداً".

• الحلم الذي تحقق

هي قصة حلم اذاً .. ليس للعمر اعتبار فيه .. وليس للدنيا متسع له، هو حلم "فؤاد" المصرّ عليه وإليه .. والذي لم يجد ضيراً في إعلانه أمام الأم والأب .. أمام الأخ والأخت، والرفاق .. "هذا حلمي، أنا أُقتل في سبيل الله .. وأفوز بزيارة إمامي، أبا عبدالله الحسين (ع)".

2018-07-20