ارشيف من :نقاط على الحروف
أومن بتموز
ماذا تعرف عن تموز؟
لا أعرف كثيراً. قليله يكفيني ويملأني. لست بحاجة إلا مما عندي. يكفيني أني استودعته ذاكرتي، وهذه، لم تخني بعد، وأظن أن لا.
أعرف ما لا يرويه الرواة؟ عرفت الامكنة ولم أودع ارضها بعد.
زرتها برفقة المقاتلين، مررنا بجوار فلسطين، المحتلة مؤقتاً. رأينا الجنود الأعداء خلف نظّاراتهم. رأونا عن قرب، لأول مرة يغادرني خوفي. شعرت أني قوي جداً. انتمي إلى تموز، شهر يعوّض عن قرن. فهو قوة على قياس مقاومة معجزة. أخذني الاخوة المقاتلون ليلاً إلى مواقعهم السرية المتقدمة. شربنا الشاي نخباً للانتصار. حدثوني عن معارك، زرت مواقعها في اليوم التالي: "هنا كنا وحيدين، وهناك كانوا أفواجاً مدرعة. أحرقناهم. لم ننسحب من الخطوط الخطرة إلا بعد إزالة الخطر. تمردنا تمرداً إيجابياً. لا ننسحب طالما الرماية على مدى الإرادة والتحدي."
دلوني على أرض المعركة في أكثر من موقع وبلدة. أقربها، معركة بنت جبيل. أفرحها مارون الراس. امتلأت انفعالاً. صرت قادراً على الرماية، وانا لا اعرف السلاح إلا باسمائه، وقليلاً ما أعرفه. في ليلة ثانية، سهرنا معهم سراً. رأيت على الشاشات السرية المبثوثة كالعيون المجهولة على الحدود، فلسطين بأضوائها وعتمتها، شوق كثيف اختطفني. قلت : "لو اعيش أكثر"، لكنت مشيت هناك وتحت ملء وطني". وقلت في سري أشياء كثيرة، كأن بي عطشا إلى الكلام. نوع من الجنون الصغير.
حدثوني عن دوريات معادية ترصد، ليلا نهاراً، وعن عمق يرى بوضوح، وكانوا يتناولون الأحداث بلغة الحكاية.
لا ادعاء بطولة، ولا فصاحة مدعية. اكلنا ما تيسّر من خبز وزعتر وألبان. عرفتهم بأسمائهم، ثم تبين لي انها ليست أسماؤهم.
تعمدت نسيانها واحتفظت بالوجوه والرواية وبالمواقع. دخلنا ما يشبه النفق إلى قلب جبل، داخله موقع مشغول بالاحداثيات، ورأيت اشياء لا ترى في المخلية.
كان لدي من الوقت ما يكفيني لأتعلم الألفباء الحقيقية للمقاومة.
وقل. زدني علما، وما زلت ازداد.
**
ماذا تعرف عن تموز؟
لا أعرف الكثير، قليله يكفيني ويمنحني سلطة الضوء لأرى بوضوح وقائع الأيام الآتية. تموز هذا، قطع مع الماضي المضرّج بالخسران. تموز هذا فاتحة عهد جديد. قبله "النكبة". قبله "النكسة". قبله "العبور" الناقص. قبله سقوط القدس، قبله احتلال كامل فلسطين. قبله اجتياح لبنان وبيروت لم ترفع الرايات البيض. قبله أنظمة ومنظمات ودول وأحزاب، قبله مواقع انتهت إلى احتلال مقيم وحروب "الاخوة الأعداء"، قبله تراث من الهزائم والنكبات والخسران...
تموز هذا، من رحم الخامس والعشرين من أيار التحرير. تموز هذا نقلنا إلى عصر جديد. قلنا للهزائم كفى. ومُذّاك والقضية على رؤوس الرماح وأصابع الزناد، وأول القول "وقل إعملوا". أول القول الفعل.
تموز، فاتحة الزمن المطيع لإرادة الرجال. تموز آية الابتكار الجديد: " كيف ينتصر الضعيف المؤمن على القوي الظالم"؟ " إسرائيل" ليست أي دولة، هي دولة فوق الدول. دولة معصومة من الخسران. مؤيدة من عالم فاقد لأخلاق العدالة. "إسرائيل" دولة عظمى في الأقليم، وفي منطقة مشلّعة الاوصال. دولا وكيانات وأنظمة وقبائل وعشائر وعساكر، وسط دول تنطق العربية بلا عروبة ولا قضية. وسط قيادات مشغولة بتثبيت سلطانها فوق رقاب شعوبها. و"إسرائيل" كذلك. دولة الدول الغربية، منها تلقى الدعم والتأييد ومساندة العدوان هناك. حدث ذلك مراراً "يومها"، كنت تشعر أنك وحدك في الميدان، لا تملك إلا رفضك وجرحك وثباتك حتى الشهادة. كم مرة التموا على المقاومة، في سنة 1993، في العام 1996، ثم في الخامس والعشرين من أيار. كنت وحدك، وكنت وحدك في الميدان مجللاً بالانتصار على الجميع. يومها هُزمت إسرائيل" وانسحبت، فيما "الأشقاء العرب" يعملون على حصار الانتصار".
يومها، وانت في الميدان، كنت وحدك. لا أحد معك. ليس معك إلا أنت، وأنت هو "نحن" الكبيرة، تلم مشقات الشعوب العربية المقهورة، الشعوب التي انهكتها انظمتها السخيفة والتافهة والبلا قيمة ولا وزن، وتشعر في المعركة أنك الأقوى، وانك وحدك، ولكنك لست وحيداً، فوجدان الشعوب هواؤك وعصبك وقبضتك، لأنك وأنت تقاتل، تحتضن الحرية والحياة وترفض الظلم والطغيان والاحتلال.
***
ماذا تعرف عن تموز؟
لا أعرف الكثير، قليله يكفيني. أعرف عن تموز، أن دولة عظمى سقطت ونكست رأسها وسحبت راياتها كذيل حيوان هارب.
عرفتُ يومها، أن كوندوليسا رايس، زارت "لبنان الرسمي" الذي لا يخُصنا، وبشّرت بشرق أوسط جديد، تكون فيه "اسرائيل" الشقيقة الكبرى، صاحبة الرعاية والقيادة.
عرفت أن "لبنان الرسمي" هزيل ومتعثر ومستعجل. يريد حلاً بأي ثمن. يريد من المقاومة أن تكف عن المقاومة. يومها، كنت أخاف منّا على المقاومة، وليس خوفاً من "اسرائيل".
كانت تعوزني فضيلة الصبر، كما يعوزني الإيمان. خفتُ. العالم ضدنا، بمن فيهم من عرب بائدة. لكنني، كالمشتاق إلى بصيص وإلى ما يبدد القلق، أنتظر مواعيد السيد حسن نصر الله. من أين لي هذه الطاقة والبساطة في تصديقه. كانت اطلالاته تُعيد اليّ الثقة. نصفُ تموز، كلامه. والنصف الآخر، طلقاتُ مقاتليه. ولقد اطمأن قلبي مراراً. صدقته بكل جوارحي، لحظة قال: "انظروا اليها، إنها تحترق". شعرنا لحظتذاك، أننا أسياد البر والبحر ولا نخشى الجو. بعدها راهنت رفاقي على النصر. قلت: إما ننتصر أو أنتحر. ولست شجاعاً لانتحر. رهاني كان: سننتصر، وانتصرنا. ما عدت أخاف كونداليسا ولا ساسة لبنان، ولا صمت العرب، ولا تغاضىِ العرب، ولا تأييد العرب للعدوان. نحن الشرق الأوسط. ونحن سنصنعه. فخلف تموز، فصيل من شعوب، تقدس القدس وفلسطين، وتضع الإيمان بتصرف القضية.
كم كان ذلك رائعاً!
***
ماذا تعرف عن تموز؟
أعرف القليل وهذا يضعني على منصّه أرى فيها فلسطين. ما عداها يعبر عن بلاد كالخيام، بلاد، تقتات من عارها وتباهي بانها حكيمة، حكمة النعامة في مبارزة الرمال. بلاد تبارز شعوبها بالقمع والقهر والفقر والبأس. عرفناهم في كل الحروب. الحرب عندهم ذات وجهة مضادة لفلسطين. إنهم الأقوى في حروبهم العربية ـ العربية، ولديهم شراهة السلطة وشراسة الاعتداء على من يخالفهم الرأي لا يخافون "إسرائيل" أبداً، بل يخافون عليها من المقاومة. عرفناها، تلك البلاد، منذ أعطيت في سايكس ـ بيكو وما بعده. إنها كانت محميات وهبات. كيانات منحت لعائلات تمتثل لمن وهبها الأرض والسلطات، هذه دولة لبني هاشم، وتلك لآل سعود، وأخرى لآل مبارك، وثالثة لآل نهيان، وهذه في لبنان،
لطوائف الأديان...أما فلسطين، فقد وئدت واعطيت لسلالة مستوردة من أصقاع الدنيا.
أعرف عن تموز، أن لبنان، بشعبه ومقاوماته، كان الاكثر إيماناً، والتزاما بفلسطين، لم تعش فلسطين في دولة كما عاشت في لبنان.
اللبنانيون، في بعضهم الوطني والقومي، فلسطينيون جداً. فلسطين عندنا، مقدسة، وقد أعطاها لبنانيون شغاف روحهم ونزف دمائهم. أعرف ان تموز كان تتويجاً لهذه المسيرة اللبنانية بانتصار غير مسبوق يضاف إلى تحرير فريد من نوعه في الخامس والعشرين من أيار.
من عنده مقاومة كالتي عندنا؟ لا أحد.
من عنده أمثال السيد حسن نصرالله؟ لا أحد.
من عنده امثال عماد مغنية ورفاقه؟ لا أحد.
من عنده مثلنا يستعد لمعركة تحرير فلسطين. وهذا ليس حلماً البتة.
أعرف تموز جيداً
عندما يفوتني تفصيل. أقصد "مليتا". هناك يطيب التذكر والأنتشاء.
هناك، تصلي بلا كلمات. ما أبدع ذلك الإيمان منها. كل ما عداه، دونه.
هذا كلام في السياسة، لا كلاماً في العاطفة.
في النهاية أقول:
تموز يكفيني، فهو زوادتي التي أقتات منها.