ارشيف من :آراء وتحليلات
فساد القطاع الخاص في مصر.. النقل إلى الجحيم
المعلوم، لكل ذي عينين، أن هناك أزمة تضرب قطاع النقل المصري، منذ سنوات، بدأت بكارثة غرق عبارة السلام، في 2006، مخلفة 1000 قتيل، على الأقل، ومستمرة حتى اليوم، تطل برأسها بين حين وآخر، لتحصد المزيد من الضحايا الأبرياء، وخصوصًا الفقراء، ممن لا يتوافر لهم خيار ركوب وسائل نقل آمنة.
وزير النقل المصري، هشام عرفات، الوجه الأكثر اشتباكًا مع الكوارث، بحماية من رأس النظام، يختصر الأزمة في الأداء الحكومي الرديء، وإذًا، فالحل الذي تفتق عنه ذهنه، هو اللجوء للخصخصة، وهو ما يجد هوى لدى الرئيس، ولدى جماعات الضغط، التابعة للبنك وصندوق النقد الدوليين، ولدى معارضة على المقاس الأميركي، تدفع النظام دفعًا لمزيد من التنازل والتراجع، وهو جاهز بالفعل، ولديه الاستعداد لتسليم 100% من البلد، وليس 99% كما فعل سابقوه.
المعارضة المتصدرة للمشهد، والتي تزايد في التبعية للغرب، لا تختلف عن النظام، إلا في عدم اختبار برنامجها فقط، لكنها تتبع الطريق ذاته، عبر تصفية القطاع العام، والارتهان لمؤسسات السيطرة المالية العالمية، أذرع واشنطن الطويلة، وترك السوق بالكامل للقطاع الخاص، ولا تستخدم القضايا الوطنية –تيران وصنافير مثلًا- إلا للمزايدة على النظام شعبيًا.
في كل حادث جديد، ترفع أصابع الاتهام فورًا، من النظام والمعارضة المتأمركة، تجاه الأداء الحكومي الرديء، وهو رديء فعلًا، لكن هل الحل هو انسحاب الدولة من القطاع الإستراتيجي، وترك الأمر بالكامل للقطاع الخاص، وحصر مهمات الدولة في دور شرطي مرور وجابي ضرائب، وهما دوران تفضلهما أنظمة كامب ديفيد، ولا يظهر أنهم يجيدون غيرهما.
القطاع الخاص المصري بداية ليس بعيدًا عن كوارث النقل، فأضخم كارثة في التاريخ المصري لوسائل النقل، وهي العبارة السلام 98، كانت تتبع شركة قطاع خاص، لصاحبها ممدوح إسماعيل، الذي فر من العقوبة، وسرت وقتها تكهنات عن شراكة بينه وبين أحد أبرز أقطاب نظام مبارك، أي أن الرهان على القطاع الخاص، هو رهان يجافي الواقع، وليس فقط يمثل اصطداماً بمصالح الأغلبية من المصريين.
لكن مصالح الناس خارج معادلة الحساب، للنظام والمعارضة الطافية، سواءً بسواء، فالرضا الأميركي هو القصد والسبيل، وشهادة حسن السير والسلوك من صندوق النقد الدولي، تعني فورًا المباركة الأميركية، وهي ما تجعل الكل في سباق نحو تحجيم الدولة، وقصقصة أجنحتها، وانسحابها من دائرة الفاعل، إلى ركن المفعول به.
هناك مشروع حكومي جرى إقراره، في أيّار الماضي، بمنح القطاع الخاص حق إدارة وإنشاء خطوط سكك حديدية، عقب حديث شهير للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، رفض خلاله أن يدفع 100 مليار جنيه لتجديد الخطوط، وميكنة الإشارات المتقادمة، قائلًا بالنص: "لما تقولي أصرف 10 مليار عشان أكهرب وأعمل ميكنة للسكة الحديد، الـ 10 مليار دول لو حطيتهم في البنك وأخدت عليهم 10% فايدة يجيبولي مليار أو 2 مليار فايدة بسعر الفايدة الحالية".
وتضمن المشروع، الذي أقره البرلمان، تعديل المادتين الثانية والرابعة من القانون الحالي، للسماح للمستثمرين الراغبين في الاستثمار في عقود التزام تتعلق بمكونات منظومة السكك الحديدية، وإفساح المجال نحو إبرام عقود التزام لأعمال إنشاء وإدارة وتشغيل وصيانة مرافق السكك الحديدية كافة، التي كانت حكرًا على الهيئة الحكومية في القانون الحالي، بشرط أن تقتصر مدة الالتزام على 15 عامًا، بدلًا من 99 الواردة في القانون الحالي.
وبعيدًا عن تهافت المنطق الرئاسي، الذي يتجاهل أن الدولة هي المقترض الأول والأكبر، وبالتالي فإنها ذاتها هي المطالبة بدفع الفوائد، فيما لو وضع الأموال بالبنك! فإن الحكومة سريعًا عرضت قانون إشراك القطاع الخاص في إدارة المرفق، ومرره البرلمان، برئاسة علي عبد العال كالعادة، دون الاستماع لمطالب معارضة تحت القبة، كانت تريد وضع حد أدنى من الضوابط والضمانات، لعدم ترك الركاب فريسة أمام شركات لا تبحث إلا عن الربح.
وزارة النقل أعلنت أيضًا عن مشروعات جديدة، لتحديث نظم الإشارات، على خطوط السكك الحديدية، بالتعاون مع شركة "ألستوم" الفرنسية، وتسريع تنفيذ مشروع تحديث نظم الإشارات على خط (بني سويف-أسيوط)، بطول 250 كيلو متر، وتكلفة مليار و600 مليون جنيه، سعيًا لإيقاف نزيف الخسائر البشرية المتعاظمة، والمتكررة.
المشروع ضمن مخطط أكبر، لتطوير نظم الإشارات على الخطوط الرئيسة بالشبكة بإجمالي أطوال 1089 كيلو متر، وتكلفة 17 مليار جنيه، أي حوالي مليار دولار، بقروض من البنك الدولي، عدا جزء أقل تنفذه "سيمنز" الألمانية، بطول 213 كيلو متر، ممول من الصندوق الكويتي والصندوق العربي للإنماء.
المستهدف من التطوير زيادة نسب الأمان، في المرفق المتهالك، وليس إضافة خطوط أو قطارات.. مجرد تطوير الإشارات، وكفى، بعد أن وضع النظام راهنه على القطاع الخاص، للقيام بما كان يعتبر دور حصري للدولة.
تصريحات وزير النقل، هشام عرفات، طوال عامي 2017 و2018 كانت مبشرة بانتهاء كوارث السكك الحديدية، بعد زيادة أسعار التذاكر، والحصول على القروض المطلوبة، وتوقيع العقود مع الشركات العالمية.
نتائج التطوير، كما هي نتائج الإصلاح الاقتصادي المزعوم، كارثية، تصفع كل من يحاول التبرير أو التماس العذر، المسؤول يعلم يقينًا أين يكمن الخطأ، والتمويل موجود، حين أرادوا توفيره، والأهم أن الصفقات تمرر بليل، دون رقابة أو حساب، وخصوصًا مع شركة "ألستوم".
لو أن هناك مسؤولًا واحدًا يملك ذرة من عقل، لمنع تمامًا التعامل مع شركة "ألستوم"، التي دخلت التاريخ بكونها الشركة المُوقّع عليها واحدة من أضخم الغرامات في تاريخ الولايات المتحدة، 772 مليون دولار، من قِبل وزارة العدل الأميركية، لتسوية اتهامات برشاوى لمسؤولين محليين، للفوز بعقود مشروعات في عدة دول، منها مصر وإندونيسيا والسعودية وتايوان.
بين دولة لا تتقن إلا الهروب، وقطاع خاص يتحين الفرصة للانفراد بالمواطن، وشركات عالمية عليها مئات علامات الاستفهام، يدور الواقع اليومي للمصري الآن، يواجه شرور تحالفات عالمية تستعين برجال أعمال محليين كوكلاء، ينزحون الأموال بسرعة للخارج، وظهورهم مكشوفة، بفعل نظام لم يتعلم من نتائج السير 45 عامًا في طريق التبعية، ولا يبدو لديه الاستعداد أساسًا للتعلم، وهي خلطة قادرة على هزيمة شعب، وتمرير واقعه، ولن يأتي من خلالها أي حل.
الحل الوحيد، القريب جدًا زمنيًا، يكمن في درس ثورة 23 يوليو/تموز، دولة شابة قادرة على الفعل، تبني وتكنس آثار الماضي، بلا اعتمادية على الخارج، وتضع شعبها أولوية، وتخرج من آثار التبعية البغيضة للأميركي، وتقف أطلال إنجازات "نظام يوليو" كشاهد أوفى على دولة استطاعت تغيير الواقع الاقتصادي-الاجتماعي لمصر، في ظرف سنوات قليلة، وفي دراسة تلك التجربة المتألقة فقط، يبدو الأمل قائمًا في مستقبل ممكنا.