ارشيف من :نقاط على الحروف

من ريمي بندلي إلى علي العطار

من ريمي بندلي إلى علي العطار

مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، عاشت المنطقة برمّتها عصر الانهزام.. دخل جيش الاحتلال مدينة بيروت لتكون ثاني عاصمة عربية بعد القدس المحتلة تسقط على مرأى من حكام العالمين العربي والإسلامي وشعوبهما، مع ما تلا هذا السقوط من حصار ومجازر وتوزيع المقاتلين الفلسطينيين على بلدان الشتات وصولاً إلى فرض رئيس للبلاد تحت فوهات المدافع والدبابات الإسرائيلية، وبذلك أصبح لبنان مهدّداً ليس في وجوده وكيانه فحسب، بل في عناصر تكوينه وألوان علمه وإمكانية استمراره كبلد ذات حدود وهوية.

قُتل الرئيس المنتخب إسرائيلياً بشير الجميّل ليخلفه أخوه أمين في مهمة معقّدة اختلطت فيها عناصر الصراع الداخلي والخارجي، لتستكمل مسار ضرب الاستقرار اللبناني الذي بدأ تحت عنوان "الحرب الأهلية" وصولاً إلى فرض الهيمنة الإسرائيلية المباشرة .. يومذاك في العام 1984 اشتهرت أغنية أدّتها الطفلة ريمي بندلي ذات الأربعة أعوام في القصر الجمهوري باللغات العربية والفرنسية والانكليزية تقول فيها:

.. سمانا عم تحلم وبتسأل الأيام .. وين الشمس الحلوة ورفوف الحمام
يا عالم أرضي محروقة.. أرضي حرية مسروقة
أرضي زغيرة مثلي زغيرة.. رودلا السلام ..اعطونا الطفولة
sauvez l'enfance
please give us a chance

كان لبنان بالفعل أرضاً محروقة وعبارة عن أشلاء نظام تتقاذفه الإرادات الخارجية، وهذه الأغنية المؤثرة جعلت دموع الرئيس أمين الجميّل تنهمر على خدّيه، ويندفع لتبنّي كلماتها كنداء لبناني إلى كل العالم يناشده لوقف الحرب ويستجدي فيه "السلام"، وكان شعار عهده "قوة لبنان في ضعفه"، تبريراً لسياسة التخاذل والتقصير والاستسلام، وترك لبنان كزورق بلا أشرعة تأخذه الأمواج في فوضى الاتجاهات، فاستمرت الحرب بأوجه مختلفة فيما كانت المؤسسات الرسمية تتخبّط في قراراتها وانقساماتها السياسية والعسكرية والطائفية وحتى الجغرافية أيضاً.

وفي المقابل كانت مجموعات قليلة من الشباب تنبش البنادق المدفونة لتعيد رسم خارطة الصراع وتعدّل بوصلة المواجهة إلى موقعها الصحيح.. كانت نواة المقاومة قد بدأت بالتمظهر الميداني لتنجح في ضرب خاصرة الاحتلال في الجنوب، وتوّجت أولى انتصاراتها في تحرير العاصمة وطرد العدو من بيروت ومطاردة جنوده في المواقع التي نشرها على امتداد ما كان يسمى "الحزام الأمني" الذي وضع شريطاً كبيراً من القرى في الجنوب والبقاع الغربي تحت الاحتلال، وفي الوقت نفسه كانت عين المقاومة على الداخل تحدّد مواطن الضعف فتبادر إلى استنهاض المجتمع اللبناني عموماً، وترصد مكامن القوة فتنشئ المؤسسات التي تعوّض عن تقصير الدولة وأجهزتها وتبني مجتمع المقاومة وتؤسس لمعادلة الصمود الثلاثية "الشعب، الجيش، المقاومة".

وعلى مدى 18 عاماً من المواجهة نجحت المقاومة في توطيد عرى الثبات والصمود، وسجّلت الانتصار تلو الانتصار ضد الاحتلال الإسرائيلي، من عدوان تموز 1993 إلى عدوان نيسان 1996، وما قبلهما وبينهما عمليات نوعية واستشهادية نجحت فيها المقاومة في ضرب العدو وعملائه، وصولاً إلى تحرير معظم الأراضي المحتلة في أيار 2000، وأتبعته بالانتصار الالهي الاستراتيجي في عدوان تموز 2006 والذي حمل عنوان "الوعد الصادق".. وأسقطت بذلك سياسة "قوة لبنان في ضعفه" وأعادت صوغ الشعار ليصبح "قوة لبنان في قوته ومقاومته".

تغيرت الشعارات والمعادلات وكذلك تغيّرت كلمات الأغاني والأناشيد، وبدلاً من استخدام براءة الأطفال لاستجداء "السلام"، صدح صوت الرجال من حنجرة المنشد علي العطار:

كــــان الــزمـــــن غــــافـــــــي عَ بـيــــــوت مــحـــــــروقــــــه
وعــــــــزم الـعــــــرب حـــافـــــــي والأرض مـســـــــروقـــــه
حـتـــــى إجـــانــــا نــــهــــــــار صـــار الـــوطـــن مــحــــروس
وتــمــــوز مِـنّـــــا صــــــــــــار يــــاخـــــــد عــبـــــــر ودروس
صـدق الـوعـد وجـبـنــا الـنـصـر .. وصـار الـمــوت بـعــز يـطـيــب
والـشـمـس الـوقـفـت عَ الـعـصـر .. تـنـطـــــرنــا مــا بـــــدّا تـغـيــب
طــــل الـغـــدر يـقــاتــلــنــــا .. ندهـتـنـا الأرض نــزلــنــــــا
حـمـيـنـا الـــدار ومـا قـبـلـنــا .. إلا كــل الـنـصــــر نـجـيـــب

تغيّرت الثقافة وتعدّل النهج، وانقلبت الموازين واختلفت المعايير، وحلّت أصوات وصراخ الجنود الإسرائيليين الذين يستغيثون للهرب من ضربات المجاهدين محلّ نداءات اليأس واستصراخ الضمير العالمي، ولم تنفع دموع الرئيس الجميّل اليائسة في العام 1984، ولا دموع الرئيس فؤاد السنيورة الحانقة من انتصار المقاومة في العام 2006، في تغيير مسار التاريخ، واستكملت المقاومة مهمة تحصين الوطن وحماية أهله في مواجهة جبهة التكفير والإرهاب داخل لبنان وعلى الجبهة السورية، وصنعت التحرير الثاني وتحوّلت جرود لبنان الشرقية إلى بساتين ارتوت بدماء الشهداء من مجاهدي المقاومة وجنود الجيش اللبناني، فصنعت العزة والسيادة الحقيقية للبنان.

الحق لا يؤخذ بالكلمات الملحّنة ولا بأوبريت "الحلم العربي" الذي ينشد الاستعطاف والبكاء على أطلال الدمار واستعادة ذكريات الهزيمة.. سقط منطق البكاء والاستجداء ولم يعد ينفع في جبهات المواجهة، ليس في لبنان فقط بل في فلسطين وسوريا واليمن والعراق وغيرها، سوى منطق القوة والثبات والمقاومة.. هو منطق الانتصار ترعاه العين التي لا تزال ساهرة على الوطن.. والأصبع الحاضر دوماً على الزناد.

2018-08-10