ارشيف من :آراء وتحليلات
على هامش ’صفقة القرن’: ما أكثر الأمثلة وأقل العِبَر!
مرت العاصفة على الأردن قبل شهرين ونيف ثم لم تلبث أن انحسرت. بدأت لغاية وعلى حسابات بعينها، ثم أنهيت جراء ظروف مُستَجِدة عاكستها. فهل هذه الظروف ستمتد وتكفل حماية الأردن إلى فترة غير محدودة، أو أن الأردن بات تحت الخطر عاجلاً أو أجلاً!.
المعطى الإسرائيلي
اجتاحت العقول الصهيونية موجة عدائية تجاه الأردن، كان اللافت فيها أنها تزامنت مع استحقاقات بعينها، منها تقارب إسرئيلي سعودي غير مسبوق تم وراء الكواليس ولامس مستوى التحالف!. ومنها طرح "الأردن وطناً بديلاً ". ربما كان آخر ما يمكن أن يتوقعه البعض ان نسمع كلاماً اسرائيلياً من قبيل: "ملك الأردن هو عدو اسرائيل" كما جاء على لسان ايدي كوهين من معهد بيغن خلال ندوة انعقدت في مدينة القدس العام الماضي برعاية "المجلس الدولي للحوار اليهودي الإسلامي" وقد شارك الطرح العديد من الباحثين الإسرائيلين. هذا والكل يعرف أن حكام الأردن لم يشكلوا يوماً خطراً على "أمن اسرائيل"، بل العكس هو الصحيح.
الإسرائيليون تحدثوا بكل وقاحة عن بدائل اردنية لمرحلة ما بعد الملك واقترحوا اسماءً! . كل هذا لأن الملك رفض عرض رفع الوصاية الأردنية عن الأقصى وبقية الأوقاف الإسلامية المقدسة. بمعنى إسقاط آخر ورقة توت سترت العائلة الحاكمة بعد خسارتها الضفة الغربية، وهي الوصاية على الأوقاف المذكورة، والتي بالرغم من شكليتها كانت بمثابة ورقة التوت التي تعطي برمزيتها غطاء لأسرة تنتسب "للفرع الهاشمي". هذه الحساسية التاريخية عند "الأسرة الهاشمية" تتعارض مع الادعاء الإسرائيلي بأن المسجد الأقصى هو هيكل سليمان والتي تجهد لإعادة بنائه لتكتسب منها شرعية امتلاكها للأرض بوصفها "أرض الميعاد" بحسب مزاعم توراتها!! . هذا التضاد هو بيت القصيد في فقدان بعض الصهاينة لأعصابهم منادين باسقاط العاهل الأردني بلغة فجة، أو بالمعنى الأدق، فإن "صفقة العصر" ما عادت تتحمل هذه الدعوى في تبعية الأماكن المقدسة للاردن. فيما المخطط وضع اليد عليها وتهويد ما امكن والحاق ما بقي منها إلى "وزارة الأديان الإسرائيلية"
كانت الأمور ذاهبة في الأردن إلى سيناريو من سيناريوهات ما سمّي بـ"الربيع العربي" . أوقفت اللعبة بعد تقدم الجيش العربي السوري ملامسا الحدود السورية الاردنية، جاء ذلك بناءً على نصيحة بريطانية بحسب ما تردد، مؤداها ان اي سيناريو اردني يفضي إلى وضع مشابه لما شهده العراق من فراغ سيكون لصالح سوريا وحليفها الإيراني يملآنه بما لديهما من حضور متجذر في الساحة الفلسطينية وبمنظات فاعلة، مما يعني ان الحدود الشمالية بين الأردن وفلسطين المحتلة ستغدو في قبضة هذه المنظمات التي منها ستطل على الجليل من خاصرته الغربية!.
الغفلة السعودية
السعودية الضالعة في "صفقة العصر" باتت هي الأخرى على مسافة قريبة من الموقف الإسرائيلي المطالب بتحويل الأردن إلى وطن بديل، غير أن ما غفلت عنه الرياض ان هذا البديل الأردني سيتحول إلى ساحة للصراعات بين مكوناته اردني فلسطيني، واردني اردني بحكم التنافس العشائري، آخذين بعين الاعتبار أن الأردن بلد حديث التكوين لم تتجذر فيه ثقافة وقيم الدولة شأنه شأن الكثير من بلدان عربية وعلى رأسها السعودية أيضاً. هذا ما غفلت عنه الرياض واعتمالات "صفقة العصر" تجري على حدودها. وابرزها سقوط الدور التاريخي للأردن ـ بحسب (التصميم البريطاني) ـ كحاجز عازل لتغدو السعودية على تماس مباشر مع "اسرائيل"، وهذا ما كان يخشاه الملك المؤسس عبد العزيز على الرغم من أنه "ماشى البريطانين" في القبول "بوطن لليهود" وهو ما سنعرج عليه فيما بعد. ولعل هذه الخشية قد دفعت الملك عبد العزيز بعد نكبة عام 48 إلى أن ينأى بدولته عن أي اقتراب يجعله على تماس مع "اسرائيل" فكان الأردن هو الفاصل بين السعودية ودولة الكيان الغاصب، بل انه تنازل لمصر عن جزيرتي تيران وصنافير على مدخل خليج العقبة لكونهما تتحكمان بالملاحة في الخليج المذكور، وبما يجعله على غير تماس مباشر مع "اسرائيل" على اعتبار ان هاتين الجزرتين بعد نكبة 48 غدتا جزء من خط الجبهة في مقابل الكيان الغاصب.
وهنا قد تخطئ السعودية إذا اعتقدت بأن هذا الخط سينقلب ليغدو مدخلاً للسلام مع "اسرائيل"، فعندما ننظر وبعقل بارد لهذه الصفقة سنجد أن "اسرائيل" ستستفيد منها، تأخذ ولا تعطي للسعودية لا أمنا ولا حماية من ايران؛ تأخذ كما تطمح اعترافا بجواز وضع الأماكن الإسلامية في القدس تحت سيطرتها ، وهي (إجازة) ثمينة برمزيتها كونها أتية من الرأس في "دار الإسلام". يكفي الصمت السعودي على ذلك في ظل علاقات طبيعية مع دولة الكيان لكي تعتبره "اسرائيل" إجازة بالعبور نحو تقاسم المسجد الأقصى كحد أدنى. وانصافاً للتاريخ فإن خشية عبد العزيز من "اسرائيل" عاد وكشفها دبلوماسي بريطاني كان قد أسر له الملك قائلا: "هناك قول مشهور للكبير حسنين هيكل يقول فيه" وقائع التاريخ الكبرى عائمات جليد، طرفها ظاهر فوق الماء، وكتلتها الرئيسية تحت سطحه، ومن يريد استكشافها عليه أن يغوص"، هذا ما يجب أن يفعله قادة السعودية، ومن هذا الغوص ما أسر به الملك عبد العزيز لأحد الدبلوماسيين البريطانيين بعد أن أحيل على التقاعد: "إن اليهود لا يعتبرون السيطرة على كامل فلسطين هدفهم النهائي، بل هم يحلمون بأرض الجنوب حتى المدينة المنورة، أما الشرق فإن لديهم أملاً وطموحاً بالتوسع فيه حتى الخليج ". وهو ايضاً لم ينطلق فيما سبق من ظن او حدس، و"اسرائيل الكبرى" تشتمل المدينة ويثرب. كما جاء في خريطة هرتزل سنة 1904... ولكن حتى الغوص وفره على السعودين قادة "اسرائيل" ، فبعد نكسة 67 وقف موشي دايان وقد اسكره النصر ليقول: "لقد استولينا على أورشليم، ونحن في طريقنا إلى يثرب وبابل" ، فيما وقفت "غولدا مائير" على شاطئ خليج العقبة وأخذت تستنشق الهواء قائلةً: "إني أشم رائحة أجدادي في خيبر".. ما أكثر الأمثلة وأقل العِبَر!!.