ارشيف من :أخبار لبنانية

’الدرس انتهى، لمّوا الكراريس’

’الدرس انتهى، لمّوا الكراريس’

جعفر البكلي - صحيفة الأخبار

بحر البقر/ مصر - الساعة التاسعة وعشرون دقيقة، صباح يوم الأربعاء 8 نيسان 1970:

تجلس زينب بجوار شقيقها محمد، في الفصل المكتظ بالتلاميذ. تستمع بانتباه إلى شرح المعلم لدرس مادة الحساب. كانت زينب طفلة في العاشرة من عمرها، عيناها براقتان، وابتسامتها عذبة، ووجهها أسمر صغير، وضفيرتها طويلة تتأرجح وراءها، كلما حَنَت ظهرها لتنقل على صفحة في دفترها المدرسي، ما سجله المعلّم على السبورة. أبوها فلاّح بسيط اسمه سيد عوض يزرع القطن في حقله الصغير، وأمها تعينه أحياناً، وتسهر أغلب الوقت على شؤون أبنائها. وكل صباح تقوم زينب باكراً لتتأهب إلى الذهاب لمدرستها رفقة أخيها. وفي ذلك اليوم الربيعي كان كل شيء عادياً، في القرية الصغيرة بحر البقر. وفجأة، سمعت زينب، وبقية تلاميذ المدرسة الابتدائية، صوتاً هادراً في السماء. تطلّع بعض الأطفال من نوافذ الفصل إلى مصدر الهدير. ورأوا طائرات تنقضّ عليهم من الجو. انفجر المكان كله، والتهمت النيران الأطفال، وسحقت الفصول الثلاثة التي تضم ستة وثمانين تلميذاً.

سوق ضحيان/ صعدة: الساعة العاشرة، صباح يوم الخميس 8 أيلول 2018:

يهرع الناس، وقد تملكهم الفزع إلى حافلة التلاميذ المدمّرة. كانت النيران تلتهم كل ما بداخلها من حديد، وقضبان، ولحم أسمر غضّ، وعظام هزيلة، ودفاتر، وحقائب عليها شعار «اليونيسف». ألقى عصف الانفجار بعضَ الأطفال، من نوافذ الحافلة، بعيداً في الشارع المكتظ بالمارة. كان أحد التلاميذ يئِنُّ من الألم، وقد غطت الدماء وجهه، ومئزره المدرسي. حمله بعض الخيّرين في سيارة إلى المستشفى الجمهوري في صعدة. لم يكن أخوه محمد حسن الحظ مثله. تمزق جسده الصغير، وبقيت عيناه جاحظتين ترمقان السماء، وتشكوان لله غدر المجرمين، وأحقادهم.

الرياض/ السعودية: الساعة الثالثة ظهراً، بعد خمس ساعات من مجزرة صعدة:

يظهر، على شاشة CNN الأميركية، العقيد تركي المالكي، عضو قسم إدارة الخطط والعمليات في القوات الجوية الملكية السعودية، والناطق الرسمي باسم ما يسمى «تحالف دعم الشرعية في اليمن». وجهه كالح، ونظرته جامدة، وصوته جاف من المشاعر. يقول: «إنّ الغارة على السوق في صعدة، أمر مشروع». يُسأل العقيد: «وما ذنب الأطفال الذين قتلوا جرّاء قصف التحالف لسوق صعدة؟!»، يردّ السعودي بصلف: «لم يكن هناك أطفال في الحافلة المستهدفة».

«إسرائيل»/ الساعة الثالثة ظهراً، خمس ساعات بعد مجزرة مدرسة بحر البقر:

يظهر موشي دايان بعصابته السوداء التي يغطي بها عينه العوراء. يقف أمام الصحافيين وميكروفونات وسائل الإعلام. يبتسم وزير حرب «إسرائيل» ببرود، ثم يقول ردّاً على سؤال أحد الصحافيين: «إنّ جيش الدفاع الإسرائيلي لا يستهدف الأطفال». يسأله الصحافي: «وما هو تعليقك على الصور الواردة من مصر، والتي تزعم أن غارة طائراتكم أصابت مدرسة، وقتلت تلاميذها؟». يبتسم دايان ابتسامة بلاستيكية، ويقول للمراسل الأوروبي بصلف: «تلك المدرسة التي أشرت لها، كانت قاعدة عسكرية مصرية، ولذلك فإنّ استهدافها كان عملاً مشروعاً». لا يسكت المراسل أمام هذا المنطق الأعوج، ويعود ليسأل دايان: «حسناً. أنتم تقصفون المدرسة لأنها قاعدة عسكرية، ولكن ما ذنب الأطفال الذين قتلوا في داخلها؟!». يرمق دايان الصحافي بعينه العوراء، ثم يقول له باستهزاء: «اسمع، يا عزيزي، ليس ذنبنا إن مات أبناء المصريين! الذنب ذنب حكومتهم. فهم الذين وضعوا الأطفال في ذلك المكان، من أجل التمويه على وظيفته العسكرية».

واشنطن/ البيت الأبيض: بعد أيام من مجزرة «بحر البقر»:

تتلقى بات نيكسون زوجة الرئيس الأميركي رسالة من تلاميذ مدرسة «بحر البقر» الناجين من المذبحة. كانت الرسالة قصيرة، ومكتوبة باللغة الإنكليزية، وتقول: «سيدتي العزيزة، يا أمّ جولي وتريشيا. هل تقبلين أن تقتل طائرات «الفانتوم» الأميركية أطفالاً يدرسون بأمان في فصولهم؟! اذكري لزوجك مستر نيكسون أن ذلك هو ما قامت به طائراته!». لم تردّ بات نيكسون على رسالة الأطفال المصريين.

القاهرة/ بعد يوم واحد من المجزرة:
يكتب الشاعر صلاح جاهين:

«الدرس انتهى
لمُّوا الكراريس بالدم
اللي على ورقهم سال
في قصر الأمم المتحدة
مسابقة لرسوم الأطفال
إيه رأيك في البقع الحمرا يا ضمير العالم، يا عزيزي؟!
دي لطفلة مصرية سمرا
كانت من أشطر تلاميذي
دمها راسم زهرة
راسم راية ثورة
راسم وجه مؤامرة
راسم خلق جبابرة
راسم نار
راسم عار
ع الصهيونية والاستعمار
والدنيا عليهم صابرة، وساكتة
على فعل الأباليس
الدرس انتهى لموا الكراريس».

2018-08-14