ارشيف من :آراء وتحليلات
العلاقات التركية الأمريكية و’المسألة الشرقية’ الجديدة!
تطفو على سطح الاحداث التحولات الطارئة في العلاقات الأمريكية ـ التركية، وتداعياتها الأكبر على التحولات والتوازنات الاقليمية ولا سيما الوضع في سوريا وتعيد الى الاذهان مصطلح "المسألة الشرقية"، المتمثلة بوجود العثمانيين في أوروبا وطردهم منها واستعادة القسطنطينية من العثمانيين بعد سقوطها في العام 1453 وتهديد مصالح الدول الأوروبية في هذه المنطقة.
وبات سؤال الساعة هل تنفصل تركيا عن امريكا والغرب والناتو، وتتحول نحو الروس والصينيين، وبشكل او بآخر نحو محور المقاومة لتطرح مسألة شرقية جديدة؟
بادئ ذي بدء، يجب الاعتراف بأن تداعيات النصر غير تداعيات الهزيمة، والخلافات بين أطراف مشروع منتصر لا تقاس بالخلافات بين أطراف مشروع مهزوم.
ولعل المشروع الصهيو امريكي في سوريا الذي شاركت به اطراف خليجية وشاركت به تركيا، لو انتصر، لكانت الاوضاع مختلفة تماما عما هي الان، وابسط ما فيها هو ان التكفيريين كانوا سيشكلون دعامة عسكرية واقتصادية تسرق النفط والثروات وتدعم المشروع الجيواستراتيجي الامريكي، الذي سينتفع به جميع الاطراف المشاركة وفقا لأسهمهم في شركة العدوان على سوريا ومحور المقاومة، وكالعادة سيلقى بهم الى سلة النفايات الامريكية ودائما على قاعدة لو انتصر.
اما بعد تعثر المشروع ثم هزيمته، فإن الأوضاع الجديدة على الارض شكلت كلفة كبيرة وأهدرت المكاسب لتصل الى تآكل رأس المال ذاته، وهو ما نلمسه من ازمة اقتصادية خليجية، بفعل العجز في الموازنات لاهدار الموارد في الانفاق على مشروعات خاسرة، وما نلمسه من ازمة اقتصادية تركية كانت مؤجلة ولم تظهر بفعل انتعاشة مؤقتة نتاج دور مساعد في العدوان على سوريا ومشروعات نفطية على ضفاف العدوان كما ابرزت التقارير، ثم ظهرت الازمة المؤجلة التي يرجع نتاجها لعوامل ابعد بدأت منذ اللجوء لصندوق النقد وغياب المشروعات الانتاجية وما تولد عنها من عجز تجاري بين الواردات والصادرات، ناهيك عن تفشي مستويات البطالة.
وبالعودة للسؤال حول انفصال تركيا عن امريكا والغرب والناتو، باتجاه مضاد نحو روسيا والصين وما يستتبع ذلك من تقاطع مع محور المقاومة، فهل هذا مطروح وما هي احتمالاته؟
الاجابة ليست سهلة على الاطلاق، ولا يجب ان تخدع المظاهر الطافية على السطح أولي التحليلات والتوقعات.
ولنضرب عددا من الأمثلة لبيان هذه الصعوبة:
1ـ يكفي ان نعرف مثلا انه وبرغم التناقض والتلاسن الامريكي ـ التركي حول ملف الاكراد، فإن الولايات المتحدة تواصل إرسال بعثات لدعم عمليات وحدات حماية الشعب من قاعدة "إنجيرليك" الجوية برضى تركيا.
حيث تعلم تركيا ان خلافا حادا او تركَ امريكا للساحة سينجم عنه اوضاع اسوأ من المنظور التركي، وربما تمكينٌ لاطراف كردية يراها النظام التركي عدوا مباشرا على حدوده.
2ـ تقول التقديرات الأمنية والاستراتيجية الأمريكية، انه إذا اشترت تركيا بالفعل S-400 الروسية ، فإن من الواجب على الولايات المتحدة أن توضح للأتراك بالضبط ما ستكون عليه تلك العواقب.
وأبرز تلك العواقب، أنه لا يمكن التفكير في تسليم طائرة F-35 - وهي المقاتلة الأولى من الجيل الخامس التابعة لحلف شمال الأطلسي - إلى دولة لها علاقات حميمة مع موسكو، وأنه وبخلاف الرسالة السياسية التي قد يرسلها مثل هذا الشراء، يجب على الناتو ألا يسمح لروسيا ببناء ملف رادار شامل للطائرة من خلال نظام الرادار S-400. لذلك ، إذا قامت تركيا بتجميع وتطبيق S-400 على أراضيها، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعلق تماما مبيعات الأسلحة الأمريكية المتطورة إلى تركيا.
وستكون هذه الخطوات متماشية مع نية "قانون مكافحة خصوم أمريكا من خلال العقوبات"، الذي أقره الكونغرس لمعاقبة أي كيانات تقوم بأعمال مهمة مع قطاع الدفاع الروسي.
علاوة على ذلك، إذا تسلمت تركيا S-400 ، فعلى الولايات المتحدة أن تضغط على أعضاء الناتو لتعليق مشاركة تركيا في تمارين التحالف الموجهة إلى روسيا، ويجب منع تركيا من الوصول إلى المعلومات السرية التي عادة ما يتم تقاسمها مع شركاء الناتو. علاوة على ذلك، ينبغي على أعضاء الناتو البدء بإعادة تقويم مشاركة تركيا في مشاريع حساسة أخرى تهدف إلى مواجهة العدوان الروسي ، مثل فرقة العمل المشتركة ذات الاستعداد العالي جدا. يجب عدم إجراء استثمارات أمنية إضافية مشتركة.
3ـ تقول التوصيات الاستراتيجية الأمريكية إنه يجب على الولايات المتحدة أيضًا البدء في عملية تخطيط السياسة لتقويم كيفية استجابتها للانفصال الرسمي في العلاقات مع تركيا - على سبيل المثال من خلال تطوير خطط طوارئ للتكيف مع فقدان الوصول إلى قواعد إنجيرليك وقونيا الجوية، ونظام رادار للانذار في ملاطية، وغيرها من المرافق التي تتخذ من تركيا مقرا لها.
4ـ حتى اللحظة تبدي تركيا تململا والتصريحات العدائية لم تصل للمستويات الامنية العميقة التي تنذر بقطيعة حقيقية، وسر الغضب الامريكي هو تحول نظام الحكم الى نظام فردي لا مؤسساتي كان يسمح لامريكا بهامش اوسع للعمل، من دون الاصطدام بشخص اردوغان الذي يصعب تقدير تقلباته ومناوراته.
ما سبق من محاذير لانفصال تركيا عن امريكا والناتو، هل تستطيع تركيا تحملها؟ وهل يسهل على امريكا التخلي عن تركيا وهل ترقى المخاوف الامريكية للتضحية بهذه العلاقة؟
بنظرة سريعة على خطورة الازمة التركية نجد ان اهم ما يميزها وفقا للتقارير ما يلي:
أولاً ، لديها مستوى عالٍ من الديون المستحقة السداد في المستقبل القريب - القروض التي يجب سدادها والأموال المقترضة من جديد. لاستخدام لغة الأسواق المالية ، يجب إعادة تمويل الديون. وتقدر وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني أن احتياجات التمويل الإجمالية لتركيا هذا العام ستكون حوالي 230 مليار دولار.
ثانياً ، استعانة العديد من الشركات التركية بالعملة الأجنبية لتصبح هذه القروض أكثر تكلفة للسداد إذا انخفضت قيمة العملة الوطنية - التي لديها.
كما يؤدي ضعف العملة إلى تفاقم مشكلة التضخم المستمر في تركيا. والليرة الأضعف تجعل الواردات أكثر تكلفة.
والتقديرات تقول ان العلاج الاسرع المنقذ لتركيا وفقا لمسارها الحالي هو اللجوء لصندوق النقد بما لامريكا والغرب من نفوذ به.
فهل ستنتفض تركيا على نظامها الاقتصادي وتغير جذريا توجهها السياسي والاقتصادي؟ وهل ستحصل على انقاذ روسي وصيني، وهل طبيعة الانقاذ والتحالف ستلبي طموحات اردوغان السياسية والاقليمية؟
التساؤلات تبقى اجاباتها رهينة الايام القليلة جدا القادمة، والتساؤلات تبقى اكثر جدية وموضوعية من اجابات لا تعدو نطاق التنجيم.