ارشيف من :مقالات
أردوغان في الفخ الاقتصادي: هذا هو الحال الحقيقي للاقتصاد التركي
فقدت الليرة التركية نحو 50 بالمائة من قيمتها خلال عام واحد وكانت الأسابيع الثلاثة الماضية بمثابة الضوء الكاشف الذي سلط على الوضع الحقيقي للاقتصاد التركي بعد الأزمة المتصاعدة بين أنقرة وواشنطن وقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض عقوبات إقتصادية على تركيا وزيادة مئة بالمئة على الضرائب الجمركية لواردات أمريكا من الحديد والصلب التركي في وقت عمد فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى استنهاض الشعور القومي عبر اتهام أمريكا بالخيانة.
لماذا هذا الانهيار؟
بعد سنوات من الخطاب القومي الرنان عن المعجزة الاقتصادية التركية، ظهر بشكل مفاجئ ضعف الاقتصاد التركي وارتهانه بشكل كبير للمصارف والاقتصاديات الغربية خصوصا الأوروبية. ولم يكد ترامب يعلن عن عقوبات بسيطة على تركيا حتى انهارت العملة التركية وظهر العجز الحقيقي في الميزان التجاري التركي وتكشفت العيوب ونقاط الضعف التي حاولت حكومات تركيا على مر سنوات حكم رجب طيب اردوغان إخفاءها وادعاء عكسها. ظهرت فجأة أرقام التضخم في الاقتصاد التركي التي بلغت 16 بالمئة خلال عام واحد بينما وصل معدل البطالة إلى 17 بالمئة بعيدا عن إدعاءات الحكومة برقم 11 بالمئة وبلغت مديونية الشركات التركية نحو 200 مليار دولار كلها للبنوك الأجنبية ويستحق منها حتى نهاية هذا العام 50 مليار دولار للبنوك الفرنسية والإيطاليه والإسبانية.
والحقيقة المرة أن تركيا يتوجب عليها 200 مليون دولار يوميا مستحقات ديون للبنوك الاجنبية وزاد الوضع صعوبة إنهيار العملة التركية السريع وغير المسبوق في تاريخ تركيا الحديث، الذي أثر على كافة قطاعات الإقتصاد التركي حيث بلغ عدد شركات البناء التي أعلنت إفلاسها العام الماضي رقما قياسيا، وبالنهاية وصل البلد الى نقطة يصعب عليه فيها تسديد مستحقاته التجارية للدول الأخرى وحتى يستطيع تمويل مبلغ الـ50 مليار في عجزها التجاري تلجأ تركيا الى اقتراض 200 مليون دولار يوميا من البنوك الخارجية ما يجعل الإقتصاد التركي رهينة سهلة بيد البنوك الأمريكية والغربية.
وأتت سياسة الرئيس اردوغان وسيطرته على الاقتصاد بعد الانقلاب العسكري لتزيد القلق ولا تعطي أي أمل بالثقة خصوصا بعدما عين أردوغان صهره وزيرا للمالية ما جعله رئيس حكومة ظل حقيقية، وقد رفضت حكومة العدالة والتنمية اقتراح البنك المركزي التركي برفع معدل الفائدة لمواجهة التضخم وأتى الرفض بسبب تخوف الحكومة التركية من تأثير هكذا إجراء على معدل النمو في البلاد الذي يبلع 7 بالمئة، وهو القوة الوحيدة للاقتصاد التركي لأن رفع معدل الفائدة على القروض سوف يقلل من حركة الاستيدان للمشاريع الاقتصادية الخاصة وبالتالي يتراجع معدل النمو الاقتصادي. هنا اردوغان لا يريد أبدا السماح بتغيير في السياسة النقدية وفضل الدخول في تصعيد سياسي مع واشنطن على أمل أن تتراجع الأخيرة عن قراراتها العقابية وتضخ أموالا في الاقتصاد التركي تؤجل مفاعيل الانهيار لأشهر عديدة.
مصادر "العهد" الفرنسية أكدت أنه كان هناك اتفاق بين وزيري خارجية تركيا وأمريكا يقضي بإطلاق سراح القس الأمريكي المتهم بالتجسس على تركيا مقابل تسليم واشنطن للداعية عبدالله غولن إلى السلطات التركية، لكن ترامب رفض هذا الاتفاق وأعلن عقوبات اقتصادية على تركيا وتوترت العلاقات أكثر خصوصا مع اتهامات انقرة لواشنطن بدعم اكراد سوريا وموقف تركيا الحازم من الموضوع وانخراطها أكثر في الصراع العسكري الدائر في سوريا ودخولها بمواجهة واضحة مع امريكا ما أخاف المستثمرين الأجانب الذين يشكلون عماد الاقتصاد التركي. فبدأ هؤلاء بسحب أموالهم من تركيا ما أثر على قيمة الليرة التي تراجعت بنسبة كبيرة قاربت حد الإنهيار. وبذلك تراجعت القدرة الشرائية للمواطن التركي وزادت الأعباء الإقتصادية والمطلبية على حكومة العدالة والتنمية.
وتشير المصادر الفرنسية إلى أن التخوف من الوضع الحالي، هو الذي دفع اردوغان لإجراء انتخابات مبكرة في حزيران الماضي ما اكسبه عامين إضافيين في حساباته الانتخابية.
الانهيار السريع للعملة التركية تجاوز في تأثيراته الحدود التركية حيث يسود القلق في اوروبا من عدوى تصيب البنوك الأوروبية الدائنة لتركيا فالشركات التركية التي اقترضت باليورو عاجزة حاليا عن إيفاء مستحقاتها بسبب انهيار سعر الليرة، كما وصلت تأثيرات الأزمة الاقتصادية في تركيا الى اقتصاديات بلدان ترتبط مع تركيا بعلاقات وتبادلات تجارية واسعة وخلال أسبوع واحد تراجع الراند الجنوب افريقي 8 بالمئة والريال البرازيلي 6 بالمئة والبيزو الأرجنتيني 4 بالمئة والروبل الروسي 7 بالمئة. لقد دخلت تركيا في حلقة مفرغة اقتصادية، وتحت تأثيرات الضغوط الاقتصادية الأمريكية ارتفعت تكلفة التمويل الأجنبي التي تسند النمو وفضل المستثمرون سحب أموالهم الى مكان آخر ما أنتج انهياراً في العملة المحلية، وارتفاعا في تكاليف الاستيراد، تزامنا مع نسبة تضخم عالية، دون وجود أي علاج حقيقي للأزمة التي قد تسبب أزمة سياسية واضطرابات اجتماعية في تركيا مفتوحة على كل الاحتمالات.