ارشيف من :آراء وتحليلات
نهاية معركة سيناء
هدأت أصوات الطائرات والقنابل في شبه جزيرة سيناء، بعد نجاح الجيش المصري، طبقًا لبيانات المتحدث العسكري المتتالية، في سحق فلول جماعة "ولاية سيناء" التابعة لداعش، وتحقيق الهدوء النسبي في الشريط الشمالي الشرقي من شمال سيناء، المتاخم لحدود مصر وفلسطين المحتلة، بعد العملية الشاملة "سيناء 2018" .
العملية العسكرية المصرية، التي سبقتها عمليات عديدة، طوال الفترة ما بعد كانون الثاني/ يناير 2011، اعتبرت ناجحة، طبقًا للجهات الرسمية، وقضت على بنية التنظيم الإرهابي، وتمهد الأرض لعمليات إعادة إعمار، تستهدف تقليل معاناة الأهالي، ممن دفعوا من حياتهم ثمنًا للحرب الضروس، التي مزقت القري والمدن السيناوية، وتسببت في تهجير واسع من مناطق الصراع.
التراجع الواضح في العمليات الإرهابية، طوال عام 2018، وعدم قدرة التنظيم على تكرار عمليات واسعة، من نوعية ما جرى خلال 2016، باستهداف واسع للكمائن العسكرية والمنشآت، سعيًا للسيطرة على بقعة محددة من الأرض، يقول حتى الآن بصدق البيانات الرسمية المصرية، عن تلقي التنظيم المتشدد أقسى الضربات، وتفتيت بنيته التحتية، واستهداف قياداته، وتضييق الخناق عليه، بعد تدمير الأنفاق التي يستخدمها التنظيم لتهريب الأسلحة والمتفجرات، أو لصنع الكمائن.
ما يجري من عمليات الآن في سيناء، فوق أنه ينحصر على بقعة ضيقة من الأرض، تمتد من العريش إلى رفح المصرية، وتتعمق بامتداد القرى جنوب الشريط الساحلي، أي على مساحة لا تزيد عن 2% من مساحة سيناء الكلية، وبطريقة حرب العصابات، التي تعاني معها الجيوش النظامية، بدأ يقل لكنه لا يختفي، بفعل غياب الدولة الطويل والمأساوي عن شبه الجزيرة.
سيناء التي تبلغ مساحتها بالكاد 6% فقط من مساحة مصر الكلية، تتفرد بجغرافيا فريدة عن ما يعاينه المصري في الوادي المنبسط، جبال شاهقة ووديان عميقة وطرق وعرة، ساعدت على انتشار التهريب والأنشطة غير المشروعة، ما بين الأسلحة والمخدرات والبشر، وكلها بدأت منذ قيام الكيان الصهيوني بامتداد حدود سيناء الشرقية كلها، وفتحت بوابات رزق حرام لضعاف النفوس من البدو خصوصًا، ما خلق صلات تمتد وتتشعب بين الصهاينة وعملاء محليين، يهتمون باستمرار العلاقات، ويستفيدون من انعدام التواجد الأمني والعسكري، الذي فرضه التزام النظم المصرية بالمعاهدة مع الكيان الصهيوني، عقب الانسحاب من سيناء.
العملية العسكرية الجديدة استفادت بالتأكيد من العمليات العسكرية السابقة، والتي ما كانت تنتهي حتى يعود "داعش" ليطل بوجهه القبيح، ويضرب مجددًا، ليجرح الثقة في الدولة، ويهدد بانفصال كامل بين الدولة وشعبها، مستفيدة من أن الشرطة المصرية، ومنذ ضربة جمعة الغضب، في 28 كانون الثاني/ يناير 2011، فقدت الثقة وفقدت المبادرة، وبالتالي خرجت من الصراع، والجهاز الأمني ـ بطبيعة تكوينه ـ كان الأقدر على المواجهة، لو توافر له التسليح الكفء والحرية في العمل، بعكس الجيش، الذي يعمل وفق شروط "كامب دايفيد".
الجانب الآخر للعمليات العسكرية، والذي لا يقل خطرًا عن عدم تحديد "هدف واضح"، هو أن كامب ديفيد تقيد عمل الجيش المصري في سيناء، والملاحق العسكرية للاتفاقية المشؤومة، تقدم زهرة شباب الوطن لا حماية جوية أو استطلاع أمام أدوات إرهابية تعمل بتنسيق صهيوني ـ وهابي ـ تركي يرغب في مزيد من إحراج النظام الحاكم، عبر إظهار ضعفه، والضغط عليه لتمرير المزيد والمزيد من التنازلات.
وتقسم معاهدة الاستسلام، التي وقعها السادات، سيناء إلى 3 مناطق، هي: المنطقة (أ) و(ب) و(ج)، والمنطقة الأولى الموجودة بين قناة السويس وتمتد بعرض 58 كم، وفيها يسمح لمصر بفرقة مشاة واحدة تتكون من 22 ألف جندي مع تسليح يقتصر على 230دبابة و126 مدفعاً ميدانياً و126 مدفعاً مضاداً للطائرات عيار 37مم و480 مركبة، ثم المنطقة (ب) وعرضها 109 كم الواقعة شرق المنطقة (أ) وتقتصر على 4000 جندي من سلاح حرس الحدود مع أسلحة خفيفة، ثم المنطقة (ج)، وتضم الشريط الحدودي كله، ومدينة الشيخ زويد بالإضافة لهضاب منطقة وسط سيناء ومدن طابا وشرم الشيخ ورفح المصرية، ولا يسمح فيها إلا بتواجد 750 جنديًا من قوات الشرطة المدنية، ويمنع فيها تحليق الطيران الحربي تمامًا، وهي المنطقة التي تشهد معظم العمليات الإرهابية من بعد 25 كانون الثاني/ يناير 2011.
استلمت مصر سيناء منقوصة السيادة، ما يجعلها دومًا بؤرة استنزاف، وحولتها ظروف استعانة السادات، ومن تلاه من أنظمة، بالمتشددين، وغض الطرف عن التمويل الوهابي القادم من السعودية خصوصًا، إلى أول مناطق مصر انفجارًا، عقب ثورة يناير، وحصدت مصر كلها من أعمال "السادات" دمًا وأرواحًا، وعمقت أزمة الوطن كله.
الخسائر البشرية المستمرة، توازت مع خسارة اقتصادية، من تراجع إيرادات السياحة، وهي إحدى أهم 3 مصادر للدخل الدولاري لمصر، وقدرّت وزارة السياحة خسائر السنوات التي أعقبت ثورة يناير بنحو 70 إلى 100 مليار دولار، وجاءت أهم عمليات داعش بتفجير طائرة روسية فوق سيناء في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، لتقضي على كل آمال التعافي السياحي، وتضع سيناء في دائرة الخطر الحمراء، وتمنع عديد من دول العالم سفر سياحها إلى شبه الجزيرة من وقتها.
العملية العسكرية الأخيرة الناجحة تتطلب إلى جوارها مجهود واسع، لتثبيت نتائجها، وخلخلة الحاضنة الشعبية، التي نجحت التنظيمات الإرهابية في إيجادها ورعايتها، وفوق ذلك كله، توفير العمل للشباب السيناوي، وانتظام إمدادات الكهرباء والمرافق، لمنع استغلال تردي الظروف المعيشية، من جانب أطراف وجهات خارجية، لعبت على الوتر ذاته سابقًا، وربحت رهانها، حتى اليوم، مصر بحاجة لرؤية شاملة، تحدد عدوها الحالي، وترسم خطوط المواجهة، وتنقل المعركة ـ ما أمكن ـ إلى قواعد العدوان، خلاف هذا ستعود عمليات الإرهاب مجددًا، فلا شيء أخطر من مواطن يعتقد أن الدولة "عدو"، ومع الرهان على السلاح لاستئصال الإرهاب، فإن السلاح لا يصلح وحده للمعركة المقبلة في سيناء.