ارشيف من :مقالات
جريح الجرود محمد سلوم: جهادٌ عن وعيٍ وإدراكٍ وبصيرة
هدى رحمة
في الحادي والعشرين من تموز من العام 2017 بدأت المعركة العسكرية لتطهير جرود عرسال والقلمون من المسلحين الإرهابيين. أكدت قيادة العمليات في حزب الله حينها أن "لا وقت محدد للعملية، وهي ستتحدث عن نفسها، وستسير وفق مراحل تم التخطيط لها." وكانت النتيجة أفضل من المتوقع، في الأيام الثلاثة الأولى للعملية قتل المجاهدون عشرات المسلحين في جبهة "النصرة"، فإن لله رجالًا إذا أرادوا أراد، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
وكما كل حرب وكل دفاع وكل معركة يخوضها رجال الله، كان حصاد النصر والتحرير زرعه شهداء وجرحى، ستة وعشرون شهيداً دمهم سال على امتداد الوطن، وجرحى بإصابات مختلفة بين شللٍ وبترٍ وفقدان نظرٍ وغيرها.
الشاب العشرينيّ محمد عارف سلوم (جهاد)، هو من مجاهدي التعبئة في حزب الله، ويعمل مع والده في قهوة يملكها. لكنه منذ بداية معارك الدفاع المقدس كان يطلب المشاركة في كل معركة سيخوضها رجال الله، ومن أول المعارك بدأ بالمشاركة، بكل ما أوتيَ من بأسٍ وعزمٍ، فكان في حمص تارة، وتدمر تارة أخرى.
وعند قرار معركة تطهير جرود عرسال والقلمون من المسلحين الإرهابيين، تهيأ لها، حمل في قلبه كل ما جمّعه من عشق آل بيت محمد منذ ما قبل الولادة، ووفاؤه لهم والدفاع عن نهجهم ومقدساتهم، وإصراره على طرد المسلحين الإرهابيين من أرض عاثوا بها فساداً. فمنها انطلقت السيارات المفخخة والإنتحاريين لقتل البشر والحجر، وفيها أعدم الإرهابيون جنود جيش الوطن، وفيها أوكار جمعت ما تقيأته قلوبهم من حقد ومخططات شيطانية للعبث بأمان الوطن وأهله وأطفاله.
في الحادي والعشرين من تموز، بدأت المعركة، وانطلق محمد كما رفاقه، انطلاق الفاتحين. وبدأ قصف المجاهدين المدفعي والصاروخي يستهدف تجمعات ونقاط انتشار وتحصينات ومواقع جبهة النصرة في ضهر الهوّى وموقع القنزح ومرتفعات عقاب وادي الخيل وشعبة النحلة، في جرود عرسال. وعندما اشتدت المعركة في ضهر الهوى، طلب مسؤول العمليات هناك أن تتحرك مجموعات لمساندة الإخوان الذين يواجهون معركة قاسية قائلاً: "بدنا شباب استشهاديين." فوقف محمد سلوم مؤكداً بكل عشقٍ ويقين: "أنا استشهادي." توجهت المجموعة بعدها إلى ضهر الهوّى وكانت معركةً حاميةً جداً، كان "محمد سلوم" حينها أول المتقدمين مع الإخوان، وبينما هو يواجه شر خلق الله، أصيب بطلقةٍ في رأسه وقع على إثرها على الأرض. يروي رفيقه الذي قام بسحبه "عندما تقدمت إليه لسحبه من الميدان إذ بطلقةٍ ثانيةٍ أصابت كتفه." يقول رفيقه: "لطالما كنت اقول لمحمد أن وجهه وجه شهيد".
وصار محمد الشهيد الحيّ. الرصاصة أصابت الجانب الأيسر من الدماغ، فقدَ جرّاء الإصابة نظره بالعين اليسرى وسمعه في الأذن اليسرى، وأصيب بشلل نصفي من جهة اليمين، فغدا لا يستطيع تحريك يده اليمنى وقدمه اليمنى، كما فقد النطق، مع تضررٍ في الوعي والإدراك.
بقي محمد في المستشفى لمدة خمسة عشر شهراً ونصف.قضى الفترة الأولى في غرفة العناية الفائقة، وكانت تصيبه نوبات كهرباء وأوجاع. ومع محمد في المستشفى، كان يطوف إليه، أقرب الناس، الزوجة والأهل والمحبون والأوفياء. والذين بدورهم عاشوا القلقٍ على وضعه الصعب والقاسي، خصوصاً أن نبضه توقف عدة مرات.
هذه الفترة الكبيرة قضاها محمد في المستشفى بأوجاعها ونوباتها. ووضع جسديّ جديدٍ قاسٍ فقدَ فيه محمد الشاب ذو الستة والعشرين ربيعاً بعضاً من حواسه وقدراته وجوارحه.
خرج محمد من المستشفى إلى المنزل فاقداً للنطق، والنظر في عينه اليسرى والسمع في أذنه اليسرى، وفاقداً القدرة على السير لإصابته بشلل نصفي من جهة اليمين، إضافة إلى أضرارٍ في الوعي والإدراك.
كان عمر ابنه الوحيد "علي الأكبر" آنذاك ثلاثة أعوام، يعيش مع والده واقعه الجديد. ما لم يتغير في محمد هو ضحكته وبسمته، فقد حافظ على بشاشة وجهه رغم كل إصاباته.
تقول "ليال" زوجة محمد وشريكة عمره وجهاده: "الواقع الجديد صعب، ومسؤولية كبيرة. كان شريكي بكل شيء، وفجأة يصبح بهذا الوضع، الأمر جداً مؤلم." لكنها تكمل بعزمٍ ودمعة يقين: "لكنني فخورة وأرفع رأسي به، هو أخذ مكانةً عند الله، وأعطاني بدوره مكانةً لا يأخذها أي كان".
كانت "ليال" قبل إصابة محمد "زوجة المجاهد"، والآن صارت هي المجاهدة، هي من تهتم بكافة أمور محمد، بالإضافة لرعايتها لابنهما "علي الأكبر". تعتبر "ليال" أن ما حصل في حالة محمد عبارة عن معجزة، فحتى عندما كان في المستشفى أصابه نزيف في الرأس وكان ينازع بين الحياة والشهادة. أقامت يومها "ليال" مأدبةً لأم البنين ووزعت الطعام في المستشفى على الجرحى وعوائلهم، ودعت كثيراً يومها، في اليوم نفسه تحسّن حال محمد وزال الخطر عنه.
وحتى عند انتقال محمد إلى المنزل، رغم أن التحسن بطيء لكنه موجود، خصوصاً مع جلسات النطق والفيزيائي والعلاج الانشغالي التي يجريها محمد أسبوعياً في مؤسسة الجرحى. تلمس "ليال" العناية الإلهية في حالة محمد الذي كاد أن يفارق الحياة عدة مرات، والذي رغم صعوبة وقساوة إصابته وآثارها، لكنه بفضل الله يتحسن، وأملها أن يعود كما كان، يتحدث إليها ويتشاركان معاً أمور حياتهما، ويلعب مع طفله. لكنها تؤكد: "مستعدة ضل إخدمو كل العمر، بحبو، زوجي وبي إبني.."
تدمع عينا "ليال" حين يحضر زوار لمنزلهما، فيُقَبِّلوا رأس ويدَي زوجها، تقول: "شي بيرفع الراس، فخوره بالخط اللي انجرح كرمالو، أنا بقرأ مجالس عزاء، وبقول يا ليتنا كنا معكم، هالجمله مش بس بدنا نقولها بالمجالس، نحنا معهن."
لأجل أن نعيش جميعاً بأمان، واجه محمد النار والخطر والموت -وهو من اختار أن يكون استشهادياً- فقام شهيداً حياً. يعاني محمد ما يعانيه من أوجاعٍ وجلسات علاج. لأجل أن يلعب أطفالنا مع آبائهم بكل طمأنينة، فيتحدثون ويضحكون معاً، تخرج ثلةٌ من خيرة الشبان ليدافعوا عن هذه الطمأنينة، وكل احتمالات النتائج موجودة، عز شهادةٍ أو عز جراحٍ أو عز أسر. لا يستطيع محمد بعد عامٍ على جراحه أن يهمس بكلمةٍ لابنه، أن يلاعبه كباقي الآباء، أن يحمله ويسير به كما كان يفعل سابقاً. لكنه أورث ابنه، وفي حياته، عزاً وفخراً بأبٍ كان أسداً في الميدان، لم يخف في الله لومة لائم، وكل إصابة به، من فقدِ نطق وبصر عينٍ وسمع أذنٍ، وشلل يدٍ وقدم، وتضرر وعيٍ وإدراك، كانت عن وعيٍ وإدراكٍ وبصيرةٍ ويقين. وحصدت جراحه مع جراح رفاقه ومع دماء رفاقه الشهداء، وعرق المجاهدين، نصراً زلزل كيد الحاقدين.
في كلمة الأمين على الدماء والجراح السيد حسن نصرالله، التي ألقاها في السادس والعشرين من شهر تموز عام 2017، وتحدث فيها عن مجريات معركة جرود عرسال قال: " إلى المضحين كلهم، إلى الشهداء، عوائل الشهداء، الجرحى، عائلات الجرحى، المجاهدين، المقاومين في هذا الميدان، وفي كل ميادين المقاومة، أنتم جميعاً. الخطاب إلى الشهداء، إلى الجرحى، إلى المقاتلين، إلى المقاومين إلى كل أب، وأم، وزوجة، وعزيز، لهؤلاء: أنتم ورثة الأئمة، أنتم أحباءهم، أنتم السائرون على نهجهم، في كل امرأة وسيدة منكم تسكن روح زينب عليها السلام، التي كانت تقول بعد كربلاء ما رأيت إلا جميلا. بكم أخرجنا الله من الذل، بدمائكم، بتضحياتكم، بشهدائكم، بجرحاكم، بدموعكم، بصبركم، بصمودكم، بإيثاركم، بشهامتكم، بشجاعتكم، أخرجنا الله من الذل. وإن شاء الله إلى مزيد من تحمل المسؤولية، ومن النصر، ومن العز، ومن الأمن والأمان."