ارشيف من :آراء وتحليلات

مصر على طريق الحل اليوناني

مصر على طريق الحل اليوناني

الدول حين تنجح، تنجح ككتلة واحدة، وكذلك حين تسقط، لا توجد تجارب عالمية خرجت فيها دولة، أو حتى تجمّع بشري ما، من أزمتها بالسير على قدم واحدة، إما نجاح أو فشل، وقد يسمح الظرف التاريخي بالتجربة والخطأ، لكن بالتأكيد فإن ظروف الشرق الأوسط لا تترك مجالًا للتجارب.

بين مصر واليونان الكثير من التشابهات، دولتا البحر المتوسط ارتبطتا في مراحل تاريخية سابقة، خاصة خلال طور الحضارة الهلنستية، وهي تمثل ذروة النفوذ اليوناني بالعالم القديم، جاء فيها الإسكندر الأكبر إلى مصر محررًا، ورفعه المصريون إلى مرتبة الفراعنة، ليستمر التقارب بين البلدين عبر مدينة الإسكندرية، التي كانت حتى منتصف الخمسينات بوتقة لتجمع ثقافات متعددة، برز فيها من العناصر اليونانية الكثير والكثير.

البلدان يمران بأزمة عنيفة، وزاد تقارب نظامي الحكم في القاهرة وأثينا من التشابهات بينهما، فاستعانتا بصندوق النقد الدولي ـ وزادت اليونان عليه الاستعانة بالترويكا الأوروبية ـ لمحاولة تجاوز الظرف الصعب، من زيادة الديون الخارجية والداخلية، وهروب الاستثمارات، والظروف السياسية المتقلبة.

رئيس وزراء اليونان إلكسيس تسيبراس أحد أكثر الضيوف الأجانب استقبالًا وزيارة من قِبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وإن اختلفت الدوافع، فالنظام المصري كان منبوذًا على الصعيد الدولي سابقًا، واليونان كانت تسعى لترسيم نهائي للحدود البحرية للاستفادة من ثرواتها الغازية، ونجحت في انتزاع ما أرادت، في إطار مكايدة سياسية للنظام المصري مع تركيا.

اليونان نجحت أيضًا، خلال العام الحالي، في طي صفحة أزمة ديونها مع أوروبا، وأعلنت "الترويكا" انتهاء 8 سنوات من أزمة الديون، وشمل الاتفاق تخفيضًا كبيرا لديون أثينا، والخروج من وصاية دائنيها، ويتيح لها بأن تموّل نفسها في الأسواق بعد سنوات من الانكماش الحاد، وفرض ثلاثة برامج مساعدات.

تقترح الجهات الدائنة غالبًا خطة "روشتة" صندوق النقد الدولي، على الدول التي يضعها الحظ العاثر تحت وصايته ـ مقرونًا بحكومات لا تملك من الرؤية ما يمكّنها من النظر للمستقبل ـ وتشمل 4 بنود، هي: رفع الدعم عن طريق زيادة أسعار الطاقة، وتكاليف الخدمات العامة، وتطبيق إصلاح ضريبي يشمل تطبيق ضريبة القيمة المضافة، والبند الثاني تقليص أعداد موظفي القطاع العام، وتقليل الرواتب الحكومية كنسبة مئوية من ميزانية البلاد، والثالث هو تطبيق نظام سعر الصرف المرن ليعكس القيمة الحقيقة للجنيه، والرابع هو خصخصة الشركات والبنوك المملوكة للدولة، لرفع يد الدولة تمامًا عن التدخل في السوق المحلية.

جذر الأزمة اليونانية متشابه أيضًا مع الأزمة المصرية الحالية، فالبلد "مدمنة ديون"،
جذر الأزمة اليونانية متشابه أيضًا مع الأزمة المصرية الحالية، فالبلد "مدمنة ديون"، بتعبير صندوق النقد الدولي، وسبق أن أشهرت إفلاسها أربع مرات، في الأعوام 1827- 1843- 1893- 1932، لأسباب تعود لعدم إيفائها بمستحقات ديونها، وأزمتها الأخيرة تعود إلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية في العقود الأربعة الأخيرة، والتي قادتها إلى حافة الإفلاس، وبدأت الشرارة الأولى لهذه الأزمة في 2004، عندما تم الإعلان بأن اليونان لم تكن مؤهلة منذ البداية لتكون ضمن المصرف النقدي الأوروبي الموحد، لأن البيانات الاقتصادية التي أُعطيت للجهات الأوروبية المسؤولة آنذاك، تم تزويرها وأعطيت عوضًا عنها معلومات خاطئة عن صحة أداء الاقتصاد اليوناني.

وفي أكتوبر 2009، اعترفت الحكومة اليونانية أخيرًا بأن الحكومات السابقة قد زيفت الحسابات القومية، وأن الحكومة الحالية تعاني عجزًا في الميزانية، ثمّ تخطت الأزمة ذروتها مع وصول عجز الموازنة في اليونان إلى 13% من الناتج المحلي، وهذا يمثل خمسة أضعاف ما هو مسموح به في منطقة اليورو. والآن تدين اليونان لصندوق النقد الدولي بنحو 5% من ناتجها القومي، وبنحو 70% للصندوق الأوروبي.

وتعيش اليونان تحت وطأة الأزمة، بسبب تراكم الدين العام الكبير الذي وصل إلى نحو 352 مليار يورو، وواجهت الدولة الأوربية مصاعب كبيرة مع تبديد ثقة المواطن في الحكومات المتعاقبة، وزيادة ضغوط مؤسسات الإقراض الدولية لتنفيذ أجندة الإصلاح بغير إبطاء، وفاتورة فوائد الديون التي تبلغ 19.5 مليار يورو، تذهب لخدمة ديون للاتحاد الأوروبي، ومعظمها ذهبت إلى بنوك ألمانية وفرنسية خاصة.

رئيس الوزراء اليساري الحالي " تسيبراس" بدأ حكمه باستفتاء شعبي، للموافقة على الخضوع للشروط الأوروبية للإصلاح أو الرفض، ورغم أن النتيجة جاءت في 2015 رفضًا قاطعًا، فأن السياسي الداهية استخدم نتيجة الاستفتاء لمفاوضة الاتحاد الأوروبي من موقع المتمنع، وهو فعليًا راغب في البقاء ضمن منطقة اليورو، وقاد عملية إصلاح صعب، خضعت فيها البلاد لسياسات تقشف صارمة، حتى منحه الاتحاد الأوروبي أخيرًا شهادة إتمام المرحلة الأولى بنجاح.

النجاح الأوروبي يعني مزيدًا من المعاناة، كما هو حال مصر بالضبط مع إشادات مسؤولي صندوق النقد الدولي، فالمرحلة الجديدة تتطلب خضوع اليونان لمراقبة مشددة من الدول الدائنة، وتطبيق قواعد صارمة على الموازنة العامة، ومزيد من التقشف، والسير على برنامج سداد 300 مليار يورو حتى عام 2032.

ببساطة فإن كل ما مرّ باليونان، منذ 2010، كان الجزء الجيد من الحكاية، أو المأساة.

الجزء الجديد يبدأ والبلد تمت تصفيته، سواء من ثرواته المادية، التي تخلص منها لسداد ديونه، أو ثروته البشرية، التي ذهبت لتجديد شباب الاقتصاديات الأوروبية الكبرى، وعلى رأسها ألمانيا، التي اجتذبت خلال سنوات الأزمة وجيزة 23 ألفًا من الكفاءات اليونانية الفنية، إضافًة إلى أعداد كبيرة غادرت إلى دول أوروبية أخرى.

إضافة إلى الخسارة غير القابلة للتعويض من الموارد البشرية، فإن الناتج المحلي لليونان تراجع 25%، وهي نسبة هائلة وغير مسبوقة، وخسرت البلد العديد من مرافقها التي خضعت لسيف الخصخصة، وارتفعت نسب البطالة فيها لما يفوق 20%، وكل الثمن الذي جناه الشعب اليوناني كان "شهادة حسن سير وسلوك" من الدول الأوروبية.
المستقبل المصري مع إملاءات صندوق النقد الدولي لا يختلف كثيرًا عن حاضر مأساة بلاد الإغريق، فالديون ترتفع إلى نسب قياسية، وبالتالي ترتفع فاتورة خدمة الدين ـخصوصًا الخارجي ـ وتطور الدين المصري من 2014 إلى 2018 لا يترك مجالًا للشك في استنساخ الأزمة اليونانية.

بدأت مصر إصلاحها ـ المزعوم ـ في نهاية 2014، والدين الداخلي في حدود 1.7 ترليون جنيه، والخارجي 41.3 مليار دولار، والآن قفزت الديون إلى 3.5 ترليون جنيه داخليًا و82.9 مليار دولار دينًا خارجيًا، وترتب على ارتفاع الديون أن خصصت الحكومة المصرية نحو 817 مليار جنيه، مقابل فوائد وأقساط الديون المستحقة، خلال العام المالي الحالي 2018/2019.

السعي المصري للنجاح، طبقًا لشروط ورؤية الجهات الدائنة الدولية، ما هو إلا سعي نحو تخريب متعمد، وتنازل بالتفريط في مستقبل البلد.. فهل هذا هو ما نريده فعلًا؟

2018-09-06