ارشيف من :نقاط على الحروف
مجزرة صبرا وشاتيلا بين مرحلتين
رغم قساوة المشهد ودماء آلاف الضحايا التي توزعت في أحياء صبرا وشاتيلا، ورغم أن القلب يعتصر ألما كلما أعاد استحضار تلك المشاهد الدموية، إلا أن توالي الأحداث أكد لنا أن الاهداف الاستراتيجية التي سعى لتحقيقها العدو وعملائه، من وراء مجزرة صبرا وشاتيلا، لم تتحقق في الساحتين اللبنانية والفلسطينية. فلا الشعب الفلسطيني تخلى عن خيار المقاومة التي انتقلت الى عمق فلسطين بعدما طاردتها جحافل جيش العدو في كل مكان خارج فلسطين. ولا الشعب اللبناني خضع ايضا للاحتلال الاسرائيلي والمشروع الاميركي في حينه، وسطَّر مقاومة أعادت صناعة التاريخ وغيرَّت معادلات الصراع.
مع ذلك، المجزرة وما سبقها من مثيلاتها، لم تكن مجرد مستجد عارض في زمان ومكان محدَّدين. بل هي وليدة سياقات ومعادلات كانت تتحكم بالصراع في حينه. تنطلق من أن "اسرائيل" لم تكن ترى أن هناك ما يردعها عن ارتكاب مثل هذه المجازر، وكان ذلك قائما منذ ما قبل اقامة الكيان الاسرائيلي، وبالتزامن مع نشوئه وصولا الى مجزرة صبرا وشاتيلا وما تبعها من مجازر لاحقة في لبنان وفلسطين... وهو ما يفتح الباب على دور ومسؤولية أغلب النظام الرسمي العربي الذي كان يفترض أن يشكل عاملا رادعا ومدافعا عن الشعبين اللبناني والفلسطيني.
المجزرة أتت ردا على مقتل رئيس الجمهورية بشير الجميل، الذي شكل انتخابه احدى النتائج السياسية للاجتياح الاسرائيلي عام 1982، وكانت نتيجة قرار يهدف الى محاولة فرض وإرساء معادلة تقوم على الخضوع للاحتلال والمخطط الاميركي الذي كان يستهدف لبنان في حينه. والرهان الذي استند اليه قرار المجزرة، هو أن تساهم في كي وعي الجمهور الفلسطيني واللبناني تفاديا لخطر تبلور مقاومة الاحتلال الاسرائيلي والمشروع الاميركي، خاصة وأنها أتت تتويجا لهزيمة عسكرية مدوية ألحقتها "اسرائيل" بكل القوى المعادية لها، التي كانت موجودة على الساحة اللبنانية في حينه.
لم يكن صانع القرار الاسرائيلي يشعر بأي حرج أو قلق أو خوف من مفاعيل وارتكاب هذا المستوى من المجازر – مجزرة صبرا وشاتيلا. والمعادلة التي كانت سائدة في حينه، أن مصلحة "اسرائيل" تطلبت ارتكاب مجزرة بشعة ضد آلاف المدنيين من اللبنانيين والفلسطينيين. وجيشها يملك القدرة على تنفيذها. بالموازاة لم يكن يوجد أي قوة تردعه أو يحسب لها حساب في حينه. والنتيجة كانت أن حصل ما حصل.
في المقابل، فيما يتعلق بالمرحلة الحالية، المصلحة الاسرائيلية بارتكاب المجازر ما زالت قائمة بل هي ملحة ايضا بهدف ردع المقاومة واخضاعها، وجيش العدو ما زال يملك القدرات لتنفيذها. لكن الجديد أنه بات يواجه مقاومة يحسب لها ألف حساب. وهكذا يلاحظ أنه لا العدو تغير، ولا المصالح تغيرت ولا قدرات جيش العدو تغيرت، وانما الذي تغير وجود القوة الرادعة التي استطاعت فرض معادلة تمنعه ليس فقط من ارتكاب المجازر، أو تملك القدرة على تدفيعه إزاءها أثمانا باهظة، وانما ايضا من الاعتداء العسكري المباشر على المقاومة في لبنان. وهكذا في مرحلة ما بعد الانتصارات، وتنامي القدرات، بات قادة العدو أكثر ادراكاً من أن أي مجازر يرتكبوها في لبنان، سيقابلها ما يدك عمقهم الاستراتيجي بما لم يشهدوه في تاريخهم.