ارشيف من :مقالات

الدواء في لبنان لعبة مصالح وتقاذف مسؤوليات

الدواء في لبنان لعبة مصالح وتقاذف مسؤوليات

عندما نتحدّث عن سوق الدواء في لبنان، فإننا بلا شك نتطرّق الى ملف شائك ومعقّد. تماماً كما أننا نناقش ملفا يمس يومياتنا وحياة كل فرد منا. أحد ليس باستطاعته القول أنه خارج إطار مظلة الدواء. الأخيرة تكاد تكون "أوكسيجين" المواطنين في الكثير من الحالات. وللأسف، فإنّ قطاع الدواء في لبنان يأخذ طابعاً أكثر تعقيداً من الكثير من البلدان. يواجه هذا السوق تحديات جمة تبدأ بغلاء الأسعار الفاحش، والذي يدفع ثمنه المواطن، نتيجة الصفقات الاحتكارية، وغياب الرقابة الفعالة، ولا تنتهي بالغرف السوداء التي تشهد على عمليات التهريب والتزوير. فساد هذا القطاع الذي تحوّل الى شر لا بد منه، خلّف الكثير من المناشدات والصرخات التي لم تكن نتيجتها سوى تقاذف المسؤوليات بين المعنيين، لتبقى أرواح المواطنين معلّقة على رحمة "فلان وعلان" عسى ولعلّ يشهد هذا القطاع ثورة اصلاحية تقتص من العابثين بالأمن الدوائي. 

غلاء الدواء في لبنان، والأسعار اللامبررة التي تذيل علب الأدوية، يدفعنا الى تكرار أسئلة لطالما طرحناها سابقاً: ما الذي يمنع لبنان من الاستفادة القصوى من العروضات المتكرّرة التي تطرحها الجمهورية الاسلامية الايرانية لناحية تزويد لبنان بالعديد من الأدوية وبأسعار شبه مجانية؟. ومن المستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه؟. 

وزير الصحة الأسبق محمد جواد خليفة الذي يُعتبر من أوائل الوزراء اللبنانيين الذين ذهبوا الى إيران وتفقدوا معامل ومصانع الأدوية فيها يُبدي إعجابه بكل ما رآه في هذا البلد من تقنيات ممتازة. وفق قناعاته فإنّ إيران أحدثت نهضة كبيرة في صناعة الأدوية في المنطقة. لكنّه في الوقت نفسه لا يخفي أنّ التعامل مع قطاع الدواء في لبنان ليس بالبساطة التي يتحدّث عنها الاعلام اليوم. لهذا القطاع آليات وضوابط واتفاقيات تقف عائقاً أمام استيراد الأدوية من الخارج في بعض الأحيان، لكنّها ليست سبباً مبرراً لتجاهل العروضات والفرص الذهبية التي تأتينا. فلو وُجدت النية الصادقة للاستيراد بعيداً عن مافيات الدواء لما كانت السياسة الدوائية العوجاء اليوم تتحكم بنفوس المواطنين. 

يضرب خليفة مثالاً على اللامبالاة والبرودة التي يتصرّف بها البعض حيال قطاع الدواء، فيتناول ملف شركة cinnagen الإيرانية المتخصصة في إنتاج أدوية البدائل الحيوية والذي لا يزال في أدراج وزارة الصحة منذ سنوات. برأيه، فإنّ على هذه الوزارة مسؤولية الرد إيجاباً أو حتى سلباً على طلب الشركة بالدخول إلى السوق اللبناني، وهي ثاني أكبر شركة في العالم في إنتاج أدوية السرطان والتصلّب اللويحي، والتي أعربت عن استعدادها لبيع لبنان أدوية أقل 50 بالمئة عن الأسعار في بقية الدول. يُشدد خليفة على أنّ أمور القطاع الدوائي لا تعالج بهذه الطريقة. وزارة الصحة اللبنانية ملزمة الرد على طلب الشركة وتبرير الأمر اذا ما كان جوابها سلبياً. 

يتطرّق وزير الصحة الأسبق الى بعض المعايير التي تحكم خطوة استيراد الأدوية من الخارج، فيشير الى أنّ هناك شروطاً تحكم عملية تسجيل الدواء في لبنان، ويبرز مؤشر الأسعار على رأس القائمة. إذ يُفترض عند استيراد الدواء أن تكون عملة الدولة المصدرة مسجلة ضمن جدول مؤشر الأسعار. وهنا يوضح خليفة أنه عمد الى تسجيل العملة الايرانية حين كان وزيراً للصحة، عقب زيارته لمعامل ومصانع الأدوية في ايران تمهيداً لأي عملية استيراد وتصدير قد تحصل بين بيروت وطهران في هذا المجال. فالقانون يمنع استيراد الدواء من أي دولة لا تكون عملتها قد سجلت مسبقاً في الجدول. كما يشير خليفة الى أنّ القانون يُلزم لبنان الخضوع لجملة من الاتفاقيات التي عقدت مع بعض الدول لناحية الملكية وبراءة الاختراع التي تتعلق بأي دولة، فمثلاً حتى وإن كان الدواء من نوع "الجنريك" فيجب أن يكون قد مرّ عليه 15 الى 20 سنة حتى تستطيع الدولة تصنيعه، وبالتالي حتى يستطيع لبنان استيراده.

لا يُنكر خليفة أن لدى إيران صناعات مهمة في القطاع الدوائي، لكن التقاعس عن استيراد الأدوية منها لا يقع فقط على عاتق الدولة اللبنانية، برأيه فإنّ المطلوب من الشركات الايرانية إرسال ملفاتها الى وزارة الصحة اللبنانية التي بدورها تعمد الى دراستها والرد عليها، اللهم إلا اذا حصل على غرار ما حصل مع شركة cinnagen، كأن تتجاهل الوزارة الطلب الايراني، وهنا يبدو  التقصير الفادح، برأي خليفة، الذي يلفت الى أنّ الحديث عن ملف الأدوية في لبنان قد يطول ويحتاج الكثير من الوقت، إلا أن الأمر بسيط وفق قناعاته، إذا ما وضع أصحاب الحل والربط مصلحة المواطن فوق الجميع، واذا ما سلكت الأمور الطرق الطبيعية، كأن ترسل الشركة رسالة الى وزارة الصحة التي يطلب منها الرد في مهلة أقصاها ستة أشهر، لتبدأ مسؤولية الشركات باستحداث مكاتب علمية لها في لبنان، واختيار وكلاء لبنانيين وصيادلة لتسويق منتجاتها، والتعامل مع الأطباء الذين بدورهم يعمدون الى تعريف المواطنين بالدواء الجنريك.  

دليل الدواء..خطوة أولى على درب الإصلاح

يؤمن خليفة أنّ قطاع الدواء في لبنان يحتاج الى إصلاح حقيقي. فكرة "دليل الدواء" التي أطلقها في عهده هي جزء من سياسة الاصلاح الدوائي التي سعى اليها لدى تسلمه الوزارة. يعتز بأنه استطاع تخفيض سعر الدواء 35 بالمئة، وهي نسبة ممتازة، دفعت حيتان الدواء آنذاك الى القيام بثورة في وجه الوزير، فدليل الدواء يقدم معلومات  تشمل اسم الدواء، التركيبة، العيار، الوفرة، بلد المنشأ، السعر الرسمي، ما يعني أن من خلاله يمكن التعرف على الدواء الجنريك، لاختياره وبالتالي توفير الكثير من المال على المواطنين. وهنا يتطرق خليفة أيضاً الى "الوصفة الطبية الموحدة" التي نوقشت في عهده قبل أن تبصر النور لاحقاً وتُشوّه. الهدف منها، وفق خليفة، كان منع تزوير الأدوية وتهريبها لضبط سوق الدواء، عبر كشف تطلّع من خلاله الوزارة على اسم الأدوية التي يصفها كل طبيب، لمعرفة ما اذا كان هناك تواطؤ مع وكلاء معينين، ولمطالبته عن عدم وصف الدواء الارخص للمواطن، ولإحصاء عدد الأدوية المستوردة، مقابل الأدوية المباعة، للتعرف عن طريق ذلك على أية عملية تزوير أو تهريب. ولكن للأسف، يؤكد خليفة أنّ "الوصفة الطبية الموحّدة" المؤلفة من ثلاثة أوراق شوّهت ولم تؤد الهدف المطلوب منها. 

لا يُنكر خليفة أن "كارتيل الدواء" يمتلك قوة تأثير كبيرة على الاقتصاد اللبناني، وهو الذي يمتلك أكثر من مليار دولار في السوق. وبالطبع فإنّ هذا الكارتيل الذي يعقد الصفقات الاحتكارية لا يروق له الاستيراد من ايران، فيحارب بشتى الطرق لمنع هذا الأمر من أن يتم. 

سكرية.. قطاع الدواء لعبة مصالح 

النائب السابق اسماعيل سكرية يتحدّث عن كارتيلات ومافيات الدواء. يُشدد على أنّ الأخيرة لا تزال تتحكم بالسياسة الدوائية منذ عقود. فسياسة استيراد الدواء من الخارج وعلى رأسها ايران ـ التي تتمتع بأدوية جيدة ـ تخضع لنفوذ كبار التجار المحتكرين الذين يعمدون الى وضع الاسعار ورفض استيراد الأدوية الخفيفة على جيوب المواطنين لأنها لا تدر عليهم أموالاً طائلة. برأي سكرية، هناك لعبة مصالح، وتواطؤ بين التجار ووزارة الصحة، للاستفادة القصوى من هذا القطاع. يشددد على أنّ الفساد ينخر هذا القطاع من ألفه الى يائه، ما يجعلنا بحاجة الى سياسة دوائية مسؤولة تهتم بمصالح المواطنين قبل أي شيء آخر. وما الكلام عن قلة ثقة بالمنتجات الايرانية والحديث عن رفض كل ما هو ايراني سياسياً إلا شماعة لتمرير مآرب ومصالح شخصية. يتمنى المتحدث أن يرى وزارة الصحة قريباً بأيدي قيادة أمينة تطبّق القانون لما فيه مصلحة المواطنين، وتستحدث مختبراً للرقابة ينقذ القطاع الدوائي.

2018-09-21