ارشيف من :مقالات
أولى خطوات مكافحة الفساد: نزع شماعة ’الصفقات العمومية’
كثيراً ما نسمع عن صفقات واتفاقات وعقود تعقدها الحكومة اللبنانية بالتراضي. في الظاهر لا جدال على مصطلح التراضي، مع ما يحمله من معاني التوافق والقبول. أما في الباطن، فدلالات هذا المصطلح إذا ما اقترنت بالصفقات قد تأخذنا الى ممارسات تتغلغل فيها أوجه الهدر والفساد. صحيح أنّ القانون اللبناني أجاز عقد هكذا اتفاقات، ولكن التطبيق "على الأرض" فاحت منه روائح الفساد والمحاصصة. فبتنا نسمع عن اتفاقات بالتراضي تُفصّل على أهواء هذا السياسي أو ذاك الوزير، بعدما تعذّر له تفصيل مناقصة على "قياسه". وغالباً ما يكون "ضغط الوقت" ومصلحة المواطن أحد "الحجج" الحاضرة دوماً في البال وعلى اللسان.
ولا نبالغ لدى قولنا أنّ الكثير من السياسيين جمعوا ثروات طائلة من بوابة الصفقات بالتراضي، مستظلين بعباءة العمولات ومتبعين سياسة "لا من شاف ولا من دري". فالعلنية والشفافية أحد أهم الصفات التي يجب أن تمتاز بها أية صفقة، غالباً ما تكون مفقودة في عقود التراضي. إذ من حق الرأي العام الإطلاع على كل شاردة وواردة في هذا الصدد، حتى تستوفي الصفقة شروطها المطلوبة. قانون المحاسبة العمومية في الفقرة 12 من المادة 147 أجاز لمجلس الوزراء إجراء التلزيمات بالتراضي ولكن بشروط، أبرزها إذا كانت تتعلّق "باللوازم والأشغال والخدمات التي يقرر مجلس الوزراء تأمينها بالتراضي بناء على اقتراح الوزير المختص". وللأسف هذا القانون تحوّل الى شماعة لدى كثر من السياسيين، الذين فسروه "على ذوقهم" وأهوائهم، فكان أن حولوا هذه الفقرة التي هي في الأصل استثناء الى قاعدة، حتى أبرمت عشرات العقود من هذا النوع على مدى سنوات. وبطبيعة الحال، صُرفت الكثير من الأموال بلا وجه حق.
شري: هدفنا تعزيز استقلالية إدارة المناقصات
هذا المسار الذي اتبعته الكثير من الحكومات، والذي يكاد يكون من أبرز أوجه الفساد المستشرية في مؤسسات الدولة، دفع كتلة الوفاء للمقاومة وفي سياق حربها على الفساد الى العمل على اقتراح قانون الصفقات العمومية الذي تحدّث عنه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله ليلة العاشر من محرم لتقديمه الى مجلس النواب. الاقتراح وفق ما عبّر عنه السيد نصرالله يسهم في الحد من الهدر بشكل كبير، وهو كما ذكرنا سابقاً من ضمن عشرات الاقتراحات التي يعمل عليها حزب الله، والتي تشكل "مكافحة الفساد" هدفها الأول والأخير، وفق ما يؤكّد عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب أمين شري لموقع "العهد" الإخباري.
قبل التطرق أكثر الى الأسباب الموجبة التي دفعت حزب الله الى تقديم الاقتراح المذكور، لا بد من التعريف عن ماهية الصفقات العمومية التي حُدّدت بأنها عقود موثقة من أجل إنجاز أشغال، تسليم لوازم، تقديم خدمات، تلزيم إدارة مرفق عام، إنشاء وتشغيل منشأة عامة لفترة محددة، تلزيم الايرادات، بيع الأموال المنقولة وغير المنقولة. كل هذه العمليات تتم بموجب القانون وبأشكال متنوعة، تتربع المناقصة على رأسها، ويأتي الاتفاق بالتراضي كاستثناء له شروطه الخاصة، التي للأسف جرى تشويهها والقفز فوقها، وفق ما يؤكّد شري، الذي يلفت الى أنّ أولى الثغرات التي تعتري واقع الصفقات العمومية في لبنان تتمثل في أن إدارة المناقصات لا تملك الاستقلالية الكافية التي تجعلها تحسن من أدائها. ومن المعلوم أنّ إدارة المناقصات تابعة للتفتيش المركزي. وهنا يوضح شري أنّ حزب الله يسعى لتحويل إدارة المناقصات الى مديرية قائمة بذاتها ما يعزز الشفافية ويسد الكثير من أبواب الهدر والفساد. مديرية مستقلة عن سلطة السياسيين، يجري كف سلطة الحكومة عنها، تعمل على إطلاع الرأي العام بكافة العقود والتلزيمات التي تجريها.
وفي معرض حديثه، يوضح شري أن حكومة الرئيس سعد الحريري سبق وتقدمت مؤخراً بمشروع لإدارة المناقصات، "لكن للأسف، عندما بدأ النقاش حوله في اللجان النيابية، طلبت الحكومة سحبه". يعود شري ليشدد على أهمية المشروع الذي يعمل حزب الله على إنجازه، والذي يتميّز بأنه يعطي إدارة المناقصات استقلاليتها التامة لتسطيع القيام بدورها في إدارة جميع المناقصات داخل مرافق الدولة والمؤسسات العامة، ما يعزّز الشفافية، ومبادئ المساواة وتكافؤ الفرص، والعلنية والمنافسة، وكلها صفات يجب أن تتمتع بها المناقصة، بعيداً عن الصفقات التي يجري تمرير الكثير من التجاوزات خلالها. وللتوضيح فإنّ المناقصة هي فرصة تنافسية تعطى لشركات وأفراد مختصين في مجال ما، لالتزام مشروع معين، عبر عرض أفضل أسعار لأفضل نوعية للخدمات المطلوبة أمام اللجنة أو المجموعة التي اطلقت المناقصة. وهذه الفرصة تنشر بإعلان عام يذاع بوسائل الإعلام المتاحة. بعدها، تلتزم الإدارة المعينة باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معها شروطاً سواء من الناحية المالية أم من الناحية الفنية.
وبالعودة الى قانون الصفقات العمومية الحالي، فيكرر شري ما قالة السيد نصرالله لناحية ضرورة تعديله بشكل يمنع التأويل والالتباس، ويسد أي فرصة للتشاطر على المال العام، مشيراً الى أنّ هذا المشروع واحد من الكثير من المشاريع التي يعمل حزب الله على انجازها في سياق حربه على الفساد.
صالح: لفصل الصفقات العمومية عن قانون المحاسبة العمومية
مدير المحاسبة السابق في وزارة المالية أمين صالح يُرجع الإشكالية في واقع الصفقات العمومية في لبنان اليوم الى نقطتين أساسيتين: الأولى تكمن في عدم تطبيق القانون الحالي الموجود، وتفسيره حسب أهواء البعض، والثانية ترجع الى الثغرات الموجودة في القانون. يؤكد صالح أن معظم الصفقات التي تتم اليوم تجريها الحكومة بالتراضي. صحيح أن هذا الأمر مبرر قانونياً ومنصوص عليه، إلا أنه ينحصر في حالات محددة وهذا ما لم يتم مراعاته. وفي ذلك ثغرة كبيرة تستدعي إعادة النظر بالقانون بشكل يمنع الحكومة من عقد الصفقات بالتراضي الا في حالات تمس الأمن الوطني. تلطي البعض تحت عامل الوقت والضغط لفرض عقد معين أمر محرّم، وفق صالح، الذي يوضح أن الاتفاق بالتراضي حسب قانون المحاسبة العمومية يعني أن الشروط والاسعار متفق عليها بين المتعهد وعاقد النفقة والذي هو في الأغلب الوزير المختص، وهذا يفتقد برأيه الى الشفافية والوضوح والعلنية والمنافسة، وكلها أمور تُفقد المناقصة شروطها الضرورية، ولا أحد يعلم في هذه الحالة إذا ما كان السعر ملائماً أم لا. أكثر من ذلك، فإن بعض الوزراء يعمدون الى زيادة النفقات تحت عناوين "عمولة"، ما يؤدي الى ذهاب الكثير من الأموال الى جيوب الوزراء، أي صرف الكثير من الأموال دون وجه حق، والعبث بخزينة الدولة، وهذا الخلل يفترض تصحيحه بحيث يتم الغاء المادة التي تجيز للحكومة التلزيم وابرام العقود إلا في الحالات التي تمس بأمن الدولة، وفق ما يؤكد صالح.
وفي توصيفه للغموض والالتباس الذي يسود الفقرة 12 من المادة 147، والذي يفتح مجالاً للتلاعب والتشاطر، يستند صالح الى قول لأحد الفلاسفة الصينيين "بداية الغموض، نهاية العدالة"، ليشدد على ضرورة نسف الفقرة المذكورة، منوهاً بالمشروع الذي تعمل كتلة الوفاء للمقاومة على إنجازه في هذا الصدد، عسى ولعلّ الطريق تُقطع على من تسول له نفسه سرقة المال العام، مشدداً على ضرورة فصل الصفقات العمومية عن قانون المحاسبة العمومية، وانجاز قانون خاص لها. وهنا يشير المتحدّث الى أنّ لبنان وافق عام 2008 على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بموجب قانون، وفي هذه الاتفاقية التزامات تنص على اتباع الشفافية والوضوح في مجال الصفقات العمومية، إلا أنّ التطبيق بيّن تجاهل لبنان لهذه الاتفاقية، عبر عقد عشرات العقود بالتراضي" ما يُحتّم ضرورة تفعيل المحاسبة والمراقبة حفاظاً على حقوق المواطنين وصوناً لبلدهم" يختم صالح.