ارشيف من :مقالات
مملكة الخطف.. نفّذ ولا تعترض وإلا
كثيراً ما يتندّر رواد مواقع "التواصل" الاجتماعي من باب تأدية النصيحة لمن يتطاول على آل سعود، بأنه "سيختطف" وبأن "الذباب الأزرق لن يعرف مكانه". المتتبع لتاريخ النظام السعودي القديم والحديث يعي تمامًا أن الخطف والإخفاء والاغتيال، كلها أعمال طبعت سيرة المملكة على مدى عقود، حتى باتت الصورة الذهنية للممكلة مرتبطة بتلك الوحشية في التصرف.
من هذا المنطلق، لا يبدو خبر اختفاء المعارض السعودي جمال خاشقجي غريبًا على أيّ شخص يتابع الحد الأدنى من الأخبار. من يغوص في خبايا البلاط السعودي، يكتشف بلا عناء الغضب اللامتناهي الذي قد يحل على كل من يخالف كلمة الملك العليا. فيكفي أن يكون الشخص مخالفاً لرأي الملك وحاشيته وخارجاً عن طاعته، حتى يُحلّل سفك دمه. في قاموس مملكة الرمال، لا مكان لحرية الرأي والتعبير، وأي حرف يخالف أهواءها، قد يكون ثمنه إزهاق حياة بأكملها. في قاموس المملكة، يعمل الملك بآية "أنا ربكم الأعلى"، فتتحول الرعية الى أدوات، تنفذ دون أن تعترض.
التاريخ إذن، يحفل بقصص الخطف والاختفاء الذي تعرّضت له أصوات مناوئة للنظام السعودي. هذه الدبلوماسية اعتمدتها السعودية منذ زمن. قضية اختفاء ناصر السعيد أبرز معارضي النظام السعودي في بيروت عام 1979 لا تزال في الذاكرة. وعلى نسقها، حدّث ولا حرج. حتى أولي القربى لم يسلموا من هذا النهج. حادثة اختطاف السلطات السعودية لثلاثة أمراء من دول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية، لاتزال ماثلة أمامنا. ولكي لا نذهب بعيداً. يكفي أن نستحضر قصّة اختطاف رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري العام الماضي. تلك الحادثة التي تطاولت الرياض بموجبها على لبنان، واعتدت على سيادته، وكادت أن تؤدي الى فتنة طائفية لا تُبقي ولا تذر، لولا معالجة الأمور بحكمة وروية. الى هذا الحد من التصعيد، قد تصل السعودية، في وجه كل من تسوّل له نفسه الاختلاف في الرأي أو العمل بسياسات تتعارض مع سياسة الديوان الملكي السعودي.
قصة اختطاف الحريري "المريرة" مع الرياض ورغم المحاولات الحثيثة لمحوها، لا تزال حية في ذاكرة اللبنانيين. بل وعادت الى الواجهة بعد تصريح النائب بولا يعقوبيان أمس الأحد في حوار مع الاعلامي جورج صليبي، والذي بيّن بشكل لا يقبل الشك أن رئيس حكومة لبنان لم يكن حرًّا في الرياض. يعقوبيان -التي أجرت حوارًّا مع الحريري من السعودية وفور اختطافه- "بقّت البحصة" وأفصحت عمّا أخفته على مدى أشهر. أفصحت بكل ما رأته وشعرت به. اعترفت بأنّ رئيس حكومة لبنان لم يكن مرتاحًا، كان مكبلًا دون قيود، وكان مضغوطًا على أمره، وأن استقالته لم تكن بملء إرادته. أي أن الحريري لم يكن حرًّا، وهو كلام يناقض ما صرّحت به في برنامج "العين بالعين" العام الماضي مباشرة فور اختطاف الحريري. حينها، قالت يعقوبيان أنها لا تملك أية معلومة عما اذا كان الحريري فعلاً في خطر أو تحت الإقامة الجبرية. وأكثر من ذلك، نوّهت المتحدّثة بالسعودية وحسن الضيافة الذي تلقته هناك، مستهزئة بكل ما قيل وقتها عن اختطاف وإخفاء تعرّض له الحريري.
اليوم، وبعد ما يقارب العام على حادثة اختطاف الحريري، لا تزال تتكشّف الكثير من الأسرار عن رحلة الأسر التي تعرّض لها. تماماً كما ستحمل الأيام المقبلة لغز اختفاء خاشقجي، وقبله كثر، سعيًّا من "مملكة القتل" لأن يكون مخالف الرأي عِبرةً لمن اعتبر.