ارشيف من :آراء وتحليلات

انتصار مصر.. المقهور

انتصار مصر.. المقهور

لم ترو حكاية نصر تشرين الأول/ أكتوبر، على الجبهة المصرية، بشكل كامل حتى اليوم، على الأقل، لكن شواهد نصر عسكري هائل، أضاعته قيادة سياسية متواطئة أو خائنة، موجودة، تصفع كل من يُسقط تضحيات الشعوب ودماء أزكى شبابها على نظم سياسية، ويجعل من المعارك الوطنية مجرد وسائل تشتري شرعية غائبة.

السياسة، في أغلب الدول العربية، تسير في ركاب الحاكم، ما يراه هو القانون، وما يريده دستور، والمؤسسات تتحول إلى سكرتاريات تنفذ ما يُطلب منها، أو ما تتخيل أنه مطلوب منها، لذلك رأينا أركان نظام السادات، في وزارة الخارجية خصوصًا، والتي حملت لواء الدفاع عن كل الخطوط الحمراء، يصعقون من توجهات السادات، وتتوالى الاستقالات، بدءا من إسماعيل فهمي، وتبعه محمد رياض وزير الدولة للشؤون الخارجية، ثم محمد إبراهيم كامل.

وفي الغرف المغلقة لمنتجع كامب ديفيد الأميركي، كانت مصائر الشرق الأوسط تتقرر نهائيًا. الكيان الصهيوني حقق في أسبوع ما عجز عنه منذ إنشائه، سواء بالسلاح أو الدعم الغربي المتواصل، وعانى العالم العربي من انقسام لا تزال آثاره تضرب قلبه حتى اللحظة.

ولمحمد إبراهيم كامل، الوزير المستقيل، كتاب شهير عن 10 شهور قضاها وزيرًا لخارجية السادات، ورأى بعينه بيع مصر تحت لافتة السلام، وكيف أُديرت خطط تفكيك وتقزيم كل مصادر القوى والفعل المصري، ليستكمل "كامل" من حيث توقف الأستاذ محمد حسنين هيكل، حكاية مصر الأتعس في تاريخها الحديث.

يروى "كامل"، في سيرة شخصية ووطنية في الآن ذاته، كيف فرط النظام الحاكم في انتصار متحقق، وألقى بوطنه تحت أقدام عدوه، يقول إن السادات كان مندفعاً بقوة نحو أميركا بلا أية مصلحة حقيقية لمصر، ويذكر تأييد السادات لاجتياح الصهاينة لجنوب لبنان في آذار/مارس/ 1978، ردًا على الفدائيين الفلسطينيين، وإصراره على إفساد أعمال الجامعة العربية بمقابلته لوزير الدفاع الصهيوني، في وقت تواجد كل وزراء الخارجية العرب بالقاهرة لبحث العدوان الصهيوني.

يتحدث عن سذاجة السادات واستخدامه لأسلوب "الفهلوة" في التفاوض مع الصهاينة وإخفائه لحقيقة ما يريده حتى عن وزير خارجيته، مما تسبب في توريطه لمصر في كثير من الاتفاقات الكارثية

ثم ينتقل إلى الحكاية الأهم، تفاصيل مهزلة كامب ديفيد حيث كان كل من كارتر وبيجين يرجعان لخبرائهما المعاونين لهما، في كل صغيرة وكبيرة، بينما كان السادات يتفاوض منفرداً وفي أفضل الأحوال كان يستعين بأسامة الباز –المستشار السياسي لمبارك فيما بعد- فقط لصياغة بعض النقاط قانونيًا أو دبلوماسيًا.

وفي النهاية يحكي كيف وافق السادات على الشروط المذلة لاتفاقية كامب ديفيد فقط لخوفه من أن يعيره العرب بفشل مبادرته للسلام وأن ذهابه للقدس كان بدون جدوى، بل وأكد السادات، وقتذاك، أنه سيوقع على أي شيء يجلبه له صديقه "كارتر" بدون أن يقرأه!.

قصة الخيانة البشعة لم تحدث في المنتجع الأميركي، بل بدأها السادات قبل ذلك بسنوات، بخداع سوريا، ودفعها لحرب مشتركة، وهم يعلمون أن الكيان الصهيوني سيترك جبهة سيناء الصحراوية للاهتمام بالجبهة السورية القريبة من تجمعاتهم الاستيطانية، ثم استكملها السادات وحده، بخطاب إلى "كيسنجر"، وزير الخارجية الأميركي الأشهر، يتعهد فيه بعدم تعميق العمليات العسكرية، يوم تشرين الأول/ 7 أكتوبر، ليترك للصهاينة فرصتين، واحدة بالانفراد بالجبهة السورية دونما ضغط عسكري مصري، والثانية استكمال دفاعاتها في خط "المضايق" بقلب سيناء، وفي النهاية أصدر القرار بالدفع بعدد من الألوية المدرعة إلى الخطوط الصهيونية ليلة 14 أكتوبر، ووقعت الواقعة، وفقد الجيش مئات الدبابات في ساعات معدودة، ليسقط قائد الجيش الثالث الميداني الجنرال عبد المنعم واصل مصابًأ بأزمة قلبية.

وسرعان ما تتالت الحوادث، ليعبر الصهاينة القناة من الشرق إلى الغرب، وهو ما لم يحاولوه إبان نكسة حزيران/ يونيو1967، ويحاصروا مدينة مصرية كبيرة (السويس)، ولم يمنعهم من الاستيلاء عليها تمامًا سوى المقاومة الشعبية الباسلة، لتقف قواتهم على بعد 101 كيلو متر من العاصمة المصرية، وتدب الخلافات في غرفة القيادة الرئيسة بين قائد الجيش ورئيس أركانه، ويكون وقف إطلاق النار مكسبًا للجيش المصري الثالث "المحاصر".

اتفاقية كامب ديفيد لم تُخرج مصر من الصراع العربي الصهيوني، كما يقول المتفائلون بها والمهللون، ممن حصلوا على العطايا الصهيونية والأميركية، بل سمحت للصهاينة بالتمدد حتى القاهرة، بوسائل ناعمة.

الأخطر في معاهدة كامب ديفيد أنها "فتحت مصر" أمام عدوان ناعم، وأول خطوة للسادات، تجاه معاهدة الذل، كانت الاستجابة لأوامر الناهب الدولي، صندوق النقد معززاً بتوصيات الإدارة الأميركية، بفتح الاقتصاد، عن طريق السماح للأشخاص والجهات التابعة للقطاع الخاص بالتعامل مع العالم الخارجي، في مجالات التصدير والاستيراد، وكسر احتكار التجارة الخارجية، الذي كان مجالًا حصريًا للقطاع العام، في زمن جمال عبد الناصر، لضمان إدارة تحقق مصالح الدولة من التعامل مع العالم الخارجي.

نمت بسرعة شديدة، وتحت سمع وبصر المؤسسات الأميركية، طبقة طفيلية، مكونة أساسًا من كبار موظفي الحكومة، ورجال أعمال زمن ما قبل الثورة، والجماعات الدينية المحملة بالفكر الوهابي، العائدة بالريالات من السعودية بالذات، وبدأت الدولارات في التدفق إلى الداخل، من بوابة التجارة، ولم يجرؤ النظام في أية لحظة على إغلاقها، أو حتى الاقتراب منها.

الحماية الأميركية كانت حاضرة طوال الوقت، تربي وتسمّن وتحمي، والأهم أنها تصنع النماذج، لمن أراد الصعود والمكسب، سواء المادي أو السياسي، أو حتى الترقي المجتمعي.

لحظة الدخول الأمريكي الأولى قامت على طبقة تتجاوز البيروقراطية المصرية، واستطاعت بمضي الوقت تطويع المؤسسات المصرية، وبقليل ضغط خارجي، كانت الشخصيات المحسوبة على تلك "الطبقة" تدفع برجالها إلى مواقع السيطرة الحقيقية في الدولة المصرية.

2018-10-10