ارشيف من :مقالات
طفل وحيد نجا من مجزرة الزارة.. يروي لـ’العهد’ ذكرياته
لم تكن السيدة أم عماد تعتقد ولو للحظة واحدة أن أقسى ما سيمر عليها في حياتها المديدة سيكون في أرذل العمر، وهي التي رأت بأم عينها كيف ذبح التكفيريون زوجها وأولادها وأحفادها عشية اقتحام قطعانهم لبلدة الزارة الآمنة في ريف حماه العام 2016 . لا عزاء للسيدة الطاعنة في العمر وفي الألم، فيما تبقى المشكلة المستعصية عند حفيدها ليث الذي كتب عليه أن يسمع من ملجئه على سطح المنزل صرخات ما قبل الموت الأخيرة لأمه وأبيه وأخته وأخيه ويرى من خلال خيوط الفجر الأولى ظلال السواطير الحادة وهي تهوي على وجوههم الممعنة في الرعب والدهشة.
فجر الزارة الدامي
رغم مرور أكثر من عامين على مجزرة الزارة الشهيرة، كان عسيراً علينا تحسس جراح لم تندمل أصلا. فهمت أم عماد غايتنا فحاولت اختصار الألم بكلمات "والله ما تم في قلب يا ابني، فاتوا عليي على البيت قتلوا زوجي وابني يوسف اللي قاومهم وتم مشتبك معهم وذبحوا ابنه الكبير غيث وذبحوا ابنته جوليا وبعدين ذبحوا زوجته ميرنا، يوسف قاومهم وقبل ما يذبحوه ليوسف استطاع أنو يهرِب ابنو ليث على سطح البيت".
رواية الجدة لامست وجدان الطفل ليث الذي دخل في نوبة بكاء طويلة وكأن الجريمة المرتكبة بحق عائلته قد حدثت لتوها. كنا أمام طفولة خرساء وكلمات صادمة تحاول أن تحبو على لسان طفل سعت جدته مرارا لتشجيعه على الحديث، وكأنما وكلت إليه دونها أمر هذا العمل الشاق. يروي ليث لموقع "العهد" الإخباري كيف اقتحم الإرهابيون قريته الزارة فجرا بأعداد غفيرة، العدد المحدود لرجال الدفاع الوطني لم يسمح بالصمود طويلا الأمر الذي جعل الأهالي يفاجأون بالإرهابيين وهم على أبواب منازلهم "كنا نياماً عند الساعة الرابعة والنصف صباحا، اقتحموا المنزل وراحوا يطلقون الرصاص علينا من النوافذ، أخرجني أبي إلى سطح المنزل ونزل بعدها هو وأخي لمقاومتهم، قتلوا أخي الكبير غيث أولا ثم قتلوا أختي جوليا وبعدها قتلوا أمي ثم تمكنوا من قتل أبي الذي قاومهم حتى اللحظات الأخيرة".
على سطح الجريمة
روى ليث لموقع "العهد" الإخباري كيف قضى يومين كاملين وهو مختبئ في زاوية السطح في حالة مهولة من الرعب يسمع تكبيرات المجرمين وقهقهاتهم والشتائم البذيئة التي راحوا يطلقونها على أفراد عائلته وهم جثامين مقطعة تسيل منها الدماء "آلمني منظر أختي الصغيرة وقد عرفتها من فستانها الأحمر وهي تسبح في بركة من دمها، وصفوا أبي بالخنزير وأمي بالكافرة، كنت في كل لحظة أشعر بأنهم سيأتون لقتلي، وبعد يومين تفطنوا لوجودي فقيدوني وأنزلوني من السطح إلى داخل البيت حيث تمكنت من إلقاء النظرات الأخيرة على جثامين أمي وأبي وأختي وأخي".
تكمل السيدة أم عماد الرواية المفجعة عن حفيدها الذي لم يستفق بعد من الذكرى الصادمة لمشاهد قتل أفراد أسرته "بقينا أنا وليث يومين مع المجرمين قبل أن يأخذونا معهم إلى بلدة الرستن حيث أخذوا معنا ابنة عمي وسلفتي وكنتها".
كانت الدماء تسيل من أم عماد حين ساقها الإرهابيون إلى الرستن، وعندما داووها من الجراح علمت بأن السلوك غير المألوف من الإرهابيين مرتبط بمفاوضات تبادل قادمة،. احتاج الأمر أكثر ما عامين لتبلور المشهد بشكله النهائي. وخلال هذه المدة رأت أم عماد الموت مرات ومرات "كنا عشرين امرأة من القرية، وبعدها جاؤوا بعجوز ورجل آخر مع امرأة حامل قتلوا زوجها أمامها في الزارة".
الإرهابيون يذبحون لملء أوقات فراغهم
مع وصول التفاوض مع الحكومة السورية إلى نهاياته واقتناع كل طرف بنتيجة التفاوض كشف هاتف من أحد الإرهابيين المتواجدين في محافظة حماه مصير هؤلاء المخطوفين الذين تم ذبحهم لإحدى لجان المصالحة "خطفنا ثلاثة أشخاص من بلدة الزارة وقتلناهم ودفناهم بجانب بحيرتها". تم التحقق من الأمر وعرف الأشخاص الثلاثة من ثيابهم، وضعت بقية الجثامين في كيس وذهبوا بها إلى المشفى الوطني.
اما ليث فقد استجمع شجاعته وتحدث لموقع "العهد" الإخباري عن لحظة وصوله إلى الرستن، وكيف أجلسوه وحيدا في غرفة صغيرة وكيف كانوا يلقون إليه فضلات الطعام وينسون وجوده لليال طويلة يتضور فيها من الجوع قبل أن يفطنوا إلى الأمر مجددا فيعطونه ما لا يسد به الرمق.
في النهاية انتهت عمليات التفاوض وأطلق ليث وجدته وعدد من نساء القرية مقابل عدد من الإرهابيين بعد أكثر من عامين من الاختطاف ليعود الناجيان الوحيدان من المجزرة التي أودت بعائلتهما في بلدة الزارة المنكوبة إلى حرية ليست بالحرية، فقضبان الذكريات الموجعة لا تزال تحتجز ليث في منزله، حيث صرخات ما قبل الموت الأخيرة لأفراد عائلته تتردد في المكان وتصل إلى مسامعه وهو مختبئ في زاوية السطح وظلال السواطير الحادة تعلو وتهوي على الأجساد الغضة مع قهقهات شريرة لإرهابيين جاؤوا مع أنفاس الشياطين.