ارشيف من :مقالات
لبنان: استراتيجية النفط غائبة
الضبابية اللبنانية حول وجود النفط والغاز انتهت عام 2009 بحقيقة ايجابية: يقع لبنان في حوض المشرق في شرق البحر الأبيض المتوسط حيث تم اكتشاف عدد كبير من حقول الغاز في المياه القبرصية والفلسطينية والمصرية. إلا أنه، وكما العادة، يعيش اللبنانيون مرحلة ما قبل تنقيب النفط بعيدين عن وضع استراتيجية لمرحلة ما بعد الانتاج.
القصة بدأت عندما أعلنت الدولة اللبنانية عن خطة للتنقيب عن النفط والغاز قدمتها كل من الشركات التالية: كونسورتيوم من توتال الفرنسية وإيني الإيطالية ونوفاتيك الروسية على أن يتم اطلاق جولة تراخيص بحرية ثانية في أواخر 2018 أو اوائل 2019.
وبحسب الوزير سيزار ابي خليل، من المتوقع ان تدوم عملية استكشاف النفط ثلاث سنوات على أن يتم حفر البئر الأول في عام 2019. فالحفر سيحدد ما إذا كان للبنان احتياطيات تجارية، وحتى الان لم تعرف أي من الكتل البحرية العشرة سيتم تضمينها في جولة التراخيص الثانية.
المحاولات اللبنانية لاطلاق عمليات الاستكشاف عام 2013 باءت بالفشل بسبب المشاكل السياسية. هذا التأخير أدى الى تكاليف باهظة تحت مبدأ الفرصة البديلة. فانخفاض أسعار الطاقة العالمية قلصت اهتمامات الشركات العالمية وبالتالي تراجعت نوعية العروض التي كان من الممكن الحصول عليها.
إضافة الى ذلك، إن التأخير بالاستكشاف وبالتالي التأخير بالتنقيب والانتاج يعني غياب عوائد النفط عن عائدات الدولة حاليا والتي من الممكن ان تسد عجز ميزانية الدولة سنويا. فأزمة الدين العام الحالية وخدمته الدائمة كانت قد تقلصت حاليا بوجود العائدات النفطية.
واستناداً إلى أسعار الغاز والنفط الحالية وعلى أساس احتياطيات الغاز في لبنان البالغة 96 ترليون قدم مكعب و 865 مليون برميل من احتياطي النفط ، يمكن أن يصل إجمالي احتياطي النفط والغاز إلى حوالي 400 مليار دولار، وتقدر العائدات الصافية للحكومة بأكثر من 200 مليار دولار اي ما يعادل ثلاثة أضعاف حجم مديونيتها العامة الحالية. كما ان متوسط الإيرادات السنوية المقدرة من احتياطيات النفط والغاز المحتملة سيكون حوالي 5.7 مليار دولار لمدة 20 سنة.
وبحسب تقرير بنك "عودة"، من المتوقع أن تستغرق مرحلة الاستكشاف نحو خمس سنوات، تليها بضع سنوات من إعداد البنى التحتية قبل توليد الإيرادات من هذا القطاع المربح. واستناداً إلى العرض، ستحصل الدولة على ما يقدر بـ 65 في المائة إلى 71 في المائة من العائدات من الطاقة البحرية بلوك 4 و 55 في المائة إلى 63 في المائة من بلوك 9.
ووفقا للتقديرات، فإن إجمالي احتياطي النفط في لبنان يتراوح بين 440 و675 مليون برميل أو ما معدله 557.5 مليون برميل. أما بالنسبة لاحتياطيات الغاز الطبيعي فيقدر احتياطي لبنان بين 12 تريليون و 25 تريليون قدم مكعب. وبالنظر إلى هذه الأرقام، فإن متوسط الاحتياطي السنوي من الغاز يقدر بنحو 8.2 مليار دولار والنفط بقيمة 4.5 مليار دولار.
هذه الأرقام ستعزز الإيرادات العامة للحكومة وتحافظ على متوسط نسبة العجز المالي إلى الناتج المحلي الإجمالي عند مستوى منخفض يبلغ 4 إلى 5 في المائة سنوياً. وعليه، ستكون الحكومة قادرة على التحكم بشكل أفضل في نمو ديونها العامة، وربما خفضها إلى أقل من 100 في المائة إذا ما تم تبني إصلاحات مالية جذرية للحد من الإنفاق العام وتعزيز الإيرادات العامة. كما ان انخفاض الواردات سينعكس ايجابيا على رصيد الحساب الجاري الذي من المتوقع أن يسجل فائضا ما بين 1 و 1.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى 20 عاما.
تواجه هذه الايجابيات تداعيات سلبية متوقعة، فالتدفقات الرأسمالية للاستثمار في القطاع النفطي في لبنان من الممكن ان تتسبب في ارتفاع سعر الصرف الحقيقي لليرة اللبنانية، كما وانها ستؤدي إلى طفرة في قطاعي المصارف والعقارات وذلك نظرا لاعتماد الاقتصاد لحد كبير على هذين القطاعين حاليا وبالتالي احتمالية ازدهارهما عالية..
إلا أن مثل هذا التطور يمكن أن يقوض القدرة المالية للبلاد في حين يعرض اقتصاده لمخاطر عالية عندما تنخفض أسعار النفط العالمية والعائدات. وعلاوة على ذلك، فإن معدلات التضخم المرتفعة وارتفاع قيمة العملة المحلية التي تحفزها تدفقات رأس المال الكبيرة وزيادة المعروض من النقد تؤثر على دخول الشركات إلى القطاع التجاري مما يحد من التنوع في الإنتاج ويعيق الشركات من تطوير قدراتها التصديرية.
ومع دخول لبنان هذه المرحلة، تغيب الخطط الاستراتيجية عن الساحة حاليا. ففي ظل تأخير تشكيل الحكومة حاليا واهتمامات الدولة بتفاصيل السياسة يغيب النفط عن أولويات أهل السلطة في وقت يحتاج فيه البلد الى خطط لامتصاص الطفرة المتوقعة بدل ان يعاني من صدمة تهز الميزان الجاري وسعر الصرف. كما ان العمل على صرف العائدات يجب ان يعتمد على خطط محددة الاهداف باعمار القطاعات المختلفة. ان انحسار النفط بأعمال الشركات الخارجية وغياب طرح الاقتراحات للاستفادة القصوى من النفط هو دليل على مستقبل هدر عائدات النفط. ولعل الاقتراح الابرز الذي من الممكن ان نعمل به هو صندوق احتياطي لانماء قطاعات انتاجية معرفية نظرا لكون الايدي العاملة اللبنانية قادرة على مثل هذا الانتاج وبالتالي نحقق هدف تنويع القطاعات الانتاجية.