ارشيف من :نقاط على الحروف

الحرب غير العسكرية مكافحة التطبيع أنموذجاً

الحرب غير العسكرية مكافحة التطبيع أنموذجاً

ينحصر فهمُ الحرب لدى كثيرين بشقها العسكري فقط، فلا يُعير هؤلاء اهتمامًا لكل مجالات الحرب غير العسكرية، بل لا يرونها حربًا أصلًا. لكنّ الحقيقية أنّ الحروب غير العسكرية دائمًا ما توجد إلى جانب الحروب العسكرية عند نشوب الأخيرة. ليس هذا وحسب، بل إنّ الحروب غير العسكرية قد تنشب وتشتعل، من دون وجود حرب عسكرية موازية.
وإذا أردنا ضرب المثال عن النوع الأول للحروب غير العسكرية، أي تلك المترافقة مع الشق العسكري، كان لنا العودة تاريخيًا الى حروب المغول وغزواتهم. فصحيحٌ أنّ المغول ربحوا القسم الأول من حروبهم العسكرية على المسلمين، لكنّهم خسروا جزءًا آخَرَ من الحرب. نعم، خسر المغول الحرب الثقافية مع المسلمين، فأسلموا. أي إنّ المُستعمِر دانَ بدين المُستعمَر واعتنقه. والأنكى من ذلك أنّ المغول انخرطوا أيضًا في صلب انقسامات المسلمين أنفسهم، ليتشيعَ قسمٌ منهم ويتسننَ آخر. الأمر الذي يعده البعض أحد أسباب خسارتهم للحرب العسكرية لاحقًا.

بيد أنّ النوع الآخر من الحروب غير العسكرية وهو الذي ينشب غير مترافقٍ مع حرب عسكرية مباشرة هو الأخطر. والخطورة هنا أنّنا قد لا نرى نتائج هذه الحرب بشكل مباشر وآني. وأحد الأمثلة العالقة في الأذهان عن هذا النوع هو الحرب الباردة، التي كانت صراعًا شاملًا بين السوفيات والأمريكيين في كل شيء عدا المواجهة العسكرية المباشرة بينهما.

الصراع مع العدو الإسرائيلي

لا غضاضة في القول إنّ الصراع العسكري المباشر للمقاومة في لبنان مع العدو الإسرائيلي هو شبهُ متوقفٍ (عدا بعض جولات الاشتباك والضربات الجوية المحدودة)، إلا أنّ هذا لا يعني توقف كل أشكال الحرب الأخرى معه. إذ إنّنا الآن في صلب حربٍ غير عسكرية طاحنة مع العدو الإسرائيلي، أبرز أوجهها الشأن الثقافي. (وعندما اتحدث عن الثقافة فلا أقصد أبدًا الصورة الممسوخة للثقافة والمثقفين العالقة في ذهن بعض رجال الشارع العرب، فالثقافة ليست حتمًا ما يقوله شخص متحذلقٌ يحمل سيغارًا في مقهى يسمى باسمٍ ثوري.)

لنلاحظ اذاً فإنّ حربنا القائمة حاليًا مع العدو الإسرائيلي هي من الصنف الثاني للحروب غير العسكرية، أي تلك اللامترافقة مع مواجهة قتالية مباشرة موازية. والخطورة فيها ـ كما سبق وذكرنا ـ أنّنا قد لا نرى نتائجها بشكل واضح أمام ناظرينا الآن.

التطبيع ساحة من ساحات الحرب المشتعلة

يكمن احد ابرز مخاطر التطبيع أنّه يجعل ثقافة العدو تسري في ساحتنا الخلفية، ثم تقضم شيئًا فشيئًا دائرة النبذ اللاحقة بكل ما هو قادم من العدو، فيصير طبيعيًا في بيئتنا. وهذا جوهر الحرب الثقافية.

في لبنان وبعد التحرير الأول عام ألفين، سُلم إلى الجهات المختصة اللبنانية عملاء العدو الإسرائيلي من دون ضربة كف واحدة، فنال أغلبهم أحكامًا شكلية لا تساوي ذرة من المآسي التي سببوها.

ومع مرور الزمن تتطورت طرق التعامل مع العملاء والمطبعين، فصارت تخلق لهم مخارج (مهازل) قانونية لتبرئتهم. وخذ على ذلك زياد المطبع دويري.

وبعدها كرت سُبحة المطبعين الذين يغض النظر عنهم. من دون الأخذ بعين الاعتبار قانون "مقاطعة اسرائيل"، الذي بات فعليا حبرًا على ورق. ومن الأمثلة التي يمكن أن تضرب عن شبهة التطبيع ـ على الأقل ـ نجد النائب في البرلمان اللبناني ميشال الضاهر.

آخر القضايا المشابهة، استضافة الجامعة الأمريكية في بيروت أحد المتعاونين مع الجامعة العبرية في القدس المحتلة، للتنظير عن السلام!

مكافحة التطبيع عمل من أعمال المقاومة وحماية لظهرها

قد يسأل سائل: كيف تكون مكافحة التطبيع عملًا مقاومًا، أو حماية لظهر المقاومة؟

بمكافحتنا للتطبيع، بكل اوجهه، ومساربه، نغلق على العدو بابًا خلفيًا على بيئتنا ومجتمعنا
وهنا نقول إنّنا بمكافحتنا للتطبيع، بكل اوجهه، ومساربه، نغلق على العدو بابًا خلفيًا على بيئتنا ومجتمعنا، اذا دخل منه بث ثقافته التي يريد في أواصرنا عبر مطبعين وعملاء.
أوليس مجتمع المقاومة ظهرها الذي يجب حمايته؟

كما أنّه إذا أردنا معرفة أهمية هذه الساحة، فلنرها بمنظار العدو نفسه.

يقول رئيس دولة الاحتلال الاسرائيلي "رؤوفين ريفلين" بتصريح في آذار/ مارس 2016 إنّ محاربة حركة مقاطعة اسرائيل (وهي احدى اهم الحركات المدنية العالمية العاملة في مجال مكافحة التطبيع مع العدو الاسرائيلي ومقاطعته) هي "قضية وجودية أكثر من كونها تهديدًا امنيًا".

وزد على ذلك أنّه أقيم في الكيان المحتل عدة مؤتمرات حضرها قيادات الصف الأول فيه، لوضع السبل الآيلة لمواجهة حركة مقاطعة "اسرائيل".

وبناءً على ما تقدم، يمكن الحديث عن امتلاكنا سلاحًا فعالًا يؤذي العدو للحد الذي يعتبره تهديدًا وجوديًا، أفلا تعتبر هذه السبل جزءًا لا يتجزأ من المقاومة؟

لكنّ السؤال الآخر الذي يطرح هنا هو، هل تنحصر مكافحة التطبيع بدعم حركات المقاطعة فقط؟

نحن حاجة ماسة إلى تقنين وتشريع واضح وصريح يجرّم كل أنواع التطبيع مع العدو بشكل قاطع وزجري
رغم الأهمية الكبيرة لما تقوم به حركة المقاطعة في العالم وفي لبنان، إلا أنّها غير كافية وحدها لمكافحة التطبيع. إذ إنّنا بحاجة لتحصين بيئتنا الداخلية اللبنانية ـ كما العربية ـ عبر التوعية الشاملة بكل طرق التطبيع ومخاطره، حتى لا يصير الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال الاسرائيلي المدعو افخي ادرعي، مصدرا لمعلومات الشباب اللبناني حول الصراع مع العدو الإسرائيلي.

والأهم من ذلك أنّنا بحاجة ماسة إلى تقنين وتشريع واضح وصريح يجرّم كل أنواع التطبيع مع العدو بشكل قاطع وزجري، خصوصًا على الصعيد الثقافي لا سيما مع ازدياد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي. (وفي هذا السياق ورغم اشتمال منطوق قانون مقاطعة اسرائيل الصادر بتاريخ 23/06/1955 على تجريم كل تعامل مع أشخاص اسرائيليين طبيعيين كانوا أو معنويين بقوله " ... ذلك متى كان موضوع الاتفاق صفقة تجارية أو عمليات مالية او اي تعامل اخر ايًا كانت طبيعته"،  لكنّ روح هذا القانون وجوهره هو مكافحة التطبيع التجاري، بالإضافة إلى أنّه وبعد 63 سنة من اصداره هو بحاجة لتطوير جذري وشامل حتى على الصعيد مكافحة التطبيع التجاري).

وعلى ضوء كل هذا، ألسنا بحاجة الى وضع استراتيجية وطنية كبرى لمكافحة التطبيع بكل أشكاله؟ أم أنّنا سنواجه نماذج أخرى من المطبِّعين تحاضر بالوطنية؟

2018-10-24