ارشيف من :آراء وتحليلات
الخصخصة.. إصلاح الإفقار والقتل
نسب بطالة خيالية، تضخم منفلت يبتلع الأخضر واليابس، خدمات متدنية، جوع وطوابير على الغذاء، فقر مدقع، تعليم يضيف لمدائن الجهل أفرادًا جددًا، ديون تتفاقم شهرًا بعد الآخر، وموازنات يتزايد عجزها، النتائج المصرية كلها جاءت عقب سنوات من السير بحماس خلف تعليمات صندوق النقد الدولي، وإنجاز روشتات الإصلاح الاقتصادي، التي ما أقامت إصلاحًا ولا صنعت فارقًا، إلا إلى الأسفل وللخلف.
من جديد تعود مصر إلى الهم الوطني الأعمق، الخصخصة، بيع حاضر الوطن، وإمكانيات المستقبل، لقاء لا شيء، كما حدث من قبل في برنامج الخصخصة الأوسع، الذي استنفذ أغلب الوحدات الإنتاجية الضخمة، التي خلفتها ثورة 23 يوليو كأعظم وأهم منجزات الزعيم جمال عبد الناصر على الإطلاق.
الكلمة سيئة السمعة جرى تحويرها إلى "طرح الشركات العامة في البورصة"، كطريقة جديدة لترويج البيع والتنازل، وسعيًا لتجنب غضب شعبي على كلمة "خصخصة" بما تحمله من ذكريات أليمة للمواطنين، من الفشل وطوابير البطالة وتراجع الدخول، وما يولده غلق مصانع وشركات من استبداله بالاستيراد، وما يعنيه من ضغط جديد على سعر صرف الجنيه المصري.
الواردات المصرية ـ خلال أول 8 شهور من العام الحالي 2018 ـ بلغت 43.134 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات 16.45 مليارًا فقط، وهذا هو بيت القصيد من رفض كل عملية للتنازل عن "الآلة والمصنع والعامل"، لأن البديل في هذه الحالة سيكون انتحارًا طوعيًا، ولجوءا إلى السوق العالمية، لاستيراد ما كنا نصنع بالفعل، وأطلال الشركات المباعة والمفككة لا تترك مجالًا للشكوك بشأن المصير المنتظر.
والشركات متعددة الجنسيات، التي يجري بيع وحدات القطاع العام إليها، تعمل على نزح فائض القيمة إلى الغرب، وبالتالي زيادة حدة الإفقار المنظم للعمالة، وزيادة الهوة بين الأغنياء والمعدمين، على نحو ينعدم معه أي معنى للعدالة، وكل هذا وفق شروط تشغيل تشبه العبودية، والعاملون في بعض شركات الاتصالات يضطرون لشراء الخطوط لأنفسهم، لمجرد تحقيق الهدف "التارجت"، وبالتالي البقاء ضمن منظومة العمل، في غياب ضمان اجتماعي، أو قانون عمل موحد وحاسم.
اللافت أن الخصخصة، في السنوات السابقة، توازى معها مجهود ضخم ومنسق لإفشال شركات القطاع العام، وفي قطاعات حيوية ومهمة، يأتي مثلًا قطاع الأدوية المصري، والذي كان قائمًا بالكامل على شركات حكومية، كانت توفر 95% من الأدوية التي تحتاجها السوق المصرية، بل وتصدر لبعض الدول العربية والإفريقية القريبة.
تحولت خريطة سوق الأدوية المصرية، من الشركات العامة، التي كانت تسيطر عليه تمامًا، حتى بلغت حصتها الآن أقل من 6% فقط، وهذا التحول وحده يكشف حجم الفساد الهائل، في غلّ يد الدولة عن توفير الأدوية لشعبها، مقابل فتح السوق أمام الشركات الأمريكية والأوروبية.
وحين تكون مناقشة تأثير الارتفاعات المتتالية في أسعار الأدوية، في بلد فقير مثل مصر، فإن الحديث هنا يتعلق بقتل واسع للفقراء.
وفي مشهد النهاية فإن 6 شركات متعددة الجنسيات، بجانب 4 شركات من القطاع الخاص المصري تمثل الآن مصدر القوة في السوق المصرية، حيث تعد شركة "جلاكسو سميث كلاين" البريطانية أكبر الشركات العالمية الخاصة العاملة في صناعة الأدوية في مصر، وتبلغ حصتها من سوق القطاع الخاص نحو 7.5% من إجمالي مبيعات القطاع الخاص فى مصر، فيما تأتى شركة "نوفارتس" السويسرية في المركز الثاني بحصة سوقية بلغت نحو 6.7% ثم شركة "سانوفى" الفرنسية بحصة بلغت نحو 6.3%، ثم شركة "إيبيكو"، بنسبة بلغت 5.4% من إجمالي المبيعات، تليها شركة "فاركو" بنسبة 4.8%، ثم شركة "فايزر" بنسبة 4.2%، وهى النسبة نفسها لشركة "بريستول مايرز سكويب"، بينما بلغت الحصة السوقية لشركة "سيرفيير" للأدوية نحو 3%، وشركة "الأميرية" 2.8%.
استغلت الشركات الخاصة والأجنبية انتشار العيادات والصيدليات الخاصة، وروجت منتجاتها الأغلى من المنتجات الحكومية، عن طريق منح الأطباء والصيادلة "bounce" على بيع منتجاتها، ما أدى إلى تراجع رهيب في مبيعات شركات الأدوية الحكومية، مقابل زيادة متنامية في سيطرة الأجانب على سوق الأدوية المصرية، والضحية كما في كل مشهد مصري كان المواطن، الحلقة الأضعف بين حكومات لا ترى وشركات عالمية تعتصر الأوطان.