ارشيف من :آراء وتحليلات
الانتخابات النصفية الأميركية.. تعميق للإنقسامات
في مرحلة تاريخية سابقة، كان الحكم في أميركا يتصف بالثبات والتجانس بشكل عام. وكان يتناوب على الحكم ـ عبر الانتخابات ـ حزبان تقليديان كبيران هما: الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. وكان الحكم حكراً على البيض البروتستانتيين ـ الماسونيين واليهود. وكان هناك تجانس بين البيت الابيض والكونغرس الاميركي (ذي الغرفتين: الدنيا ـ مجلس النواب، والعليا ـ مجلس الشيوخ) حيث ان الحزب الذي يفوز بالانتخابات الرئاسية كان يفوز ايضا بانتخابات الكونغرس. وكانت هناك ايضا انتخابات حكام الولايات التي هي عملية مستقلة ايضا. وفي الغالب كان الحزب الفائز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية يفوز بأغلبية مقاعد حكام الولايات.
في عهد الرئيس بوش الابن (2001 ـ 2009) وبنتيجة أحداث 11 ايلول 2001 والحرب على افغانستان (2001) والعراق (2003) بدأ يظهر انقسام سلس في الطبقات العليا للشريحة السياسية الحاكمة بصورة: صقور (متشددين)، وحمائم (متساهلين). كما بدأ ادخال اللون الآخر الى الطبقات العليا للادارة (الافريقي كولن باول وزير الخارجية في 2001 ـ 2005). ثم وصل الى البيت الابيض اول رئيس اميركي من اصل افريقي هو باراك حسين اوباما (2009 ـ 2017) من الحزب الديمقراطي، الذي ورث عن سلفه "الجمهوري" جورج بوش الابن الازمة المالية ـ الاقتصادية التي انفجرت في اميركا سنة 2008. واتسمت المرحلة الثانية من عهد اوباما بالانقسام بين البيت الابيض "الدمقراطي" وبين الكونغرس الذي سيطر عليه "الحزب الجمهوري"، مما جعل استصدار القوانين والمراسيم متعذراً الا بعد مفاوضات مريرة ومساومات سياسية صعبة بين البيت الأبيض والكونغرس.
وفي تشرين الثاني 2016 انتخب المرشح "الجمهوري" دونالد ترامب رئيسا للجمهورية فائزا على المرشحة "الدمقراطية" هيلاري كلينتون. وتسلم منصب الرئاسة في كانون الثاني 2017 خلفا لباراك اوباما "الديمقراطي". وكان فوز ترامب بمثابة صدمة للحياة السياسية في اميركا لانه لم يكن ينتمي الى الشريحة السياسية العليا المحترفة، بل الى قطاع رجال الاعمال. ولدى اعلان فوز دونالد ترامب سارت التظاهرات الاحتجاجية ضده في ارجاء الولايات المتحدة الاميركية كافة. وهذا يحدث لاول مرة ضد انتخاب رئيس اميركي جديد. وفي هذا الجو الانقسامي بدأ دونالد ترامب عهده برفع شعار "اميركا اولا" وباشر حملة غير مسبوقة ضد السياسة الاميركية المتبعة، الداخلية والخارجية، ولا سيما المالية والتجارية والعسكرية. واعلن انسحاب اميركا من "الاتفاقية النووية" الدولية مع ايران، والانسحاب من اتفاقية الصواريخ متوسطة وقريبة المدى مع الاتحاد السوفياتي السابق (روسيا)، وفرض الضرائب الجمركية والرسوم على الواردات الاميركية من الصين وغيرها من البلدان الشريكة والحليفة لاميركا دون التشاور مع الاطراف المعنية، وشن الحرب التجارية ضد الصين وروسيا وغيرهما من الدول الحليفة التقليدية لاميركا، وهاجم الدول الاسلامية بحجة مكافحة الارهاب الاسلاموي التكفيري الذي كانت تدعمه أميركا بالذات، كما هاجم اللاجئين الى أميركا وأعلن قرارات جائرة بفصل أطفال اللاجئين عن أهاليهم، وأعلن تشديد العقوبات ضد روسيا والصين وايران وكوريا الشمالية والدول والشركات التي لا تتقيد بهذه العقوبات الاميركية وحيدة الجانب.
وفي هذه الأجواء المتشنجة، داخليا ودوليا، جرت الانتخابات النصفية التقليدية في أميركا. وكان دونالد ترامب وفريقه يأملون في أن يفوز أنصار ترامب من "الجمهوريين" بالأكثرية في الكونغرس (بغرفتيه: الدنيا ـ مجلس النواب، والعليا ـ مجلس الشيوخ) وفي انتخاب حكام الولايات. وكان جميع المحللين يعتبرون أن هذه الانتخابات ستكون بمثابة استفتاء على دونالد ترامب نفسه. ولكن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر اذ جاءت نتائج الانتخابات النصفية بعكس ما كان يتوقعه فريق دونالد ترامب، حيث فاز الحزب الدمقراطي بالاغلبية في مجلس النواب، بينما احتفظ الحزب الجمهوري بصعوبة بالاغلبية في مجلس الشيوخ وحكام الولايات. وهذا يعني أن مركز الرئاسة لم يعد مطلق اليدين في المبادرات السياسية الكبرى، المالية والتجارية والسياسية والعسكرية، الداخلية والخارجية، وأن اصدار القوانين والمراسيم سيصبح من الآن فصاعداً مقيداً بالبازار السياسي بين الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، أي أن أميركا انتقلت من حكم الحزب الواحد الى "ازدواجية الحكم"، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر الانقسام في "الشارع" الاميركي ذاته، بوجود رئيس متشنج ومتعصب ومتقلب كدونالد ترامب وفريقه. وهذا الانقسام بين غرفتي الكونغرس سوف يعرقل المبادرات التشريعية للبيت الابيض والجمهوريين في السنتين الباقيتين من عهد ترامب. كما أن مجلس النواب بأكثريته "الديمقراطية" الجديدة يمكن أن يشرع في اجراء تحقيقات حول نشاط ترامب في قطاع البيزنس، وغسيل الأموال وادارته للمؤسسات الحكومية والقضايا المتفرعة عما يسمى "التدخل الروسي" في الانتخابات الرئاسية الاميركية التي جاءت بترامب الى سدة الرئاسة.
وفي التفاصيل
وحسب استطلاع للرأي العام أجرته وكالة IPSOS فإن الفضل في انتصار "الدمقراطيين" يعود الى أصوات النساء والشبان واللاتينيين، حيث حاز "الدمقراطيون" على 55% من أصوات النساء (وبلغت نسبة مشاركة النساء 53% من مجموع الناخبين)، وعلى 33% من اصوات اللاتينيين (وهذا يزيد عن انتخابات سنة 2014)، و62% من أصوات الشبان من الفئة العمرية 18 ـ 34 سنة. وصوت 65% من الناخبين البيض غير الحائزين على شهادة جامعية، لصالح الحزب الجمهوري. وهذا دليل ساطع على الانقسام بين البيض والملونين.
وفي استطلاع للرأي قال 64% من الناخبين إنهم يذهبون للتصويت من أجل اظهار عدم رضاهم عن حكم ترامب.
وقد انعكست نتائج الانتخابات النصفية على الأسواق المالية، اذ انخفض الدولار أمام اليورو بنسبة 0،6% وامام السترليني بنسبة 0،4%.
وعلى العموم "دلت نتائج الانتخابات النصفية أن قسماً كبيراً من الناخبين يريد أن يضع حدوداً أمام ترامب في السنتين القادمتين من عهده" كما كتبت The Washington Post. وسيكون بامكان مجلس النواب أن تكون له كلمته في السياسة الخارجية الاميركية وأن يطالب بالمحافظة على الستاتيكو (الوضع القائم) في العلاقات مع الصين وايران، وإن كان سيتشدد في العلاقات مع روسيا ومع السعودية وكوريا الشمالية. وسيتوجب على ترامب من الآن فصاعداً أن يختار بين تهدئة اللعبة أو الاستمرار في التصعيد. والأرجح أن ينحو نحو الخيار الثاني. ولكنه سيواجه الضغط من قبل الحزب الديمقراطي.
يذكر أنه شارك في الانتخابات أكثر من 100 مليون ناخب، وهو رقم قياسي بالنسبة للانتخابات النصفية. وقد أنفق المعسكران 5،2 مليارات دولار على الحملة الانتخابية وهو ايضا رقم قياسي. إن مرحلة ما بعد الانتخابات النصفية الاميركية الأخيرة لن تكون كما قبلها، بل ستكون مليئة بالمطبات والمفاجآت الناتجة عن السياسة الاميركية الخرقاء بترامب وبدونه.