ارشيف من :آراء وتحليلات
اليمين المتطرف يجتاح أميركا اللاتينية
إذا كانت الموجة الشعبوية في أوروبا قد تقدمت على وقع أزمة الهجرة، التي فشلت الأحزاب التقليدية في معالجتها وإدارتها، فإن الصعود السريع للشعبويين اليمينيين كان عارماً في عدد من الدول الأميركية اللاتينية الكبيرة مؤخراً، ماوريسيو ماكري في الأرجنتين، وسباستيان بينييرا في تشيلي، وإيفان دوكيه في كولومبيا. ومرد ذلك يعود إلى:
- التراجع الخطير في المؤشرات الأمنية التي تتجاوز معدّلات البلدان التي تعيش حالات الحرب، وعجز اليسار عن طرح حلول وأفكار مبتكرة لمواجهة هذه الظاهرة المتنامية التي تهدد الأمن والتعايش، والتي نجحت القوى اليمينية والشعبوية في استغلالها.
- المثل الفنزويلي الحي الذي يُغني عن كل الانتقادات التي يمكن أن توجّه إلى الأنظمة اليسارية، والذي تزداد تداعياته كل يوم منذ سنوات أمام مواطني الجوار، وسيبقى عبئا ثقيلا جدا على كاهل اليسار إلى أجل غير مسمّى.
- المساواة بين المرأة والرجل في كل الميادين، وما تفرّع عنها من قوانين تساوي بينهما في الأجور، وتفرض وجود نساء في المجالس الإدارية للمؤسسات العامة والخاصة، وتقيم نظاما جديدا متشددا للعلاقات الزوجية من باب مكافحة العنف الأسري الذي يسجل في أميركا اللاتينية أعلى المستويات في العالم. بالإضافة إلى منح الحقوق التي حصلت عليها ما تسمّى "الأقليات الجنسية"، الذي قابلته ردة فعل قوية مناهضة في الأوساط المحافظة والجماعات الدينية التي ترفض أن تمنح تلك الأقليات أي اعتراف اجتماعي أو سياسي، أو أن تُعطى حقوق الوراثة والتبنّي، التي تعتبرها ضربا من الانحطاط الاجتماعي.
بالإضافة إلى موجة الفساد التي لم تسلم منها دولة في أميركا اللاتينية، والتي جعلت من كل هذه الأسباب وغيرها تربة خصبة تُولّد منها هذه التيارات الشعبوية التي تلجأ إلى أسلوب سياسي توتاليتاري ينمو على بذر الشقاق ويتغذّى من التفرقة.
ونتيجة لذلك، جاء الفوز الذي حققه المرشح الشعبوي واليميني المتطرف جاير بولسونارو في انتخابات الرئاسة البرازيلية مؤخراً، ليتوج صعود القوى اليمينية في معظم بلدان أميركا اللاتينية خلال السنوات الثلاث المنصرمة، ويرسّخ تمدد الحركات الشعبوية في العالم منذ الأزمة الاقتصادية والمالية في عام 2008 ، وبقدر ما كان هذا الفوز شبه كاسح، بقدر ما يُنتظر أن تكون له تداعيات في الجوار الإقليمي، كما على الساحة الدولية، نظراً لثقل اقتصاد البرازيل ودورها الوازن في النظام العالمي المتعدد الأطراف. وتكمن أهمية "تجربة البرازيل"، في أنها الاقتصاد الأكبر في أميركا اللاتينية، وثامن أكبر اقتصاد في العالم ودولة يبلغ عدد سكانها نحو 210 مليون نسمة مع موارد طبيعية وفيرة وأكبر شريك تجاري لها هو الصين، بالإضافة إلى كونها دولة كبيرة ومؤثرة داخل أميركا اللاتينية، ولاعباً سياسياً وازناً على الساحة الدولية .
وبفوز بولسونارو في الانتخابات الرئاسية تكون البرازيل قد اختارت للمرة الأولى رئيساً من اليمين المتطرف الذي استطاع الاستفادة من ترهل "يمين الوسط"، وانشقاقات "اليسار" المتتابعة. واستطاع عبر خطاباته المتشددة جذب "التيار الإنجيلي" المتصاعد، الذي حوّل الكنائس والأديرة إلى منصات انتخابية. كذلك انضمت الشركات الكبرى والمتاجر الشهيرة إلى دعم بولسونارو خوفاً من عودة "العماليين"، على الرغم من جراحهم النازفة.
ورأى الخبراء أنه على الرغم من المعركة غير المتكافئة التي كانت بين بولسونارو ومنافسه اليساري فرناندو حداد اللبناني الأصل، إلا أن الأخير استطاع مفاجأة خصومه رغم دخوله متأخراً إلى حلبة المواجهة. فحداد وازن على اعتباره وكيلا لدا سيلفا من جهة، وعلى اعتبار حضوره الشخصي من جهة أخرى. توازن أظهره مشروعه الانتخابي الذي بدت فيه لمساته التغييرية، وتميّزه عن أسلافه في التعاطي مع الشأن الاقتصادي.
فالبرازيل التي شهدت ازدهارا اقتصاديا غير مسبوق خلال عهد دا سيلفا بين عامي 2003 و 2010، عانت أيضا من أسوأ حالة ركود خلال حكم خليفته التي اختارها ديلما روسيف، والتي عزلها البرلمان بعد فضيحة مالية في عام 2016. وحكم حزب العمال البرازيل من 2003 إلى 2016 قبل أن ينتهي حكمه بشكل مفاجئ مع عزل روسيف. وكان للفوضى السياسية انعكاسات وخيمة على الاقتصاد؛ إذ تراجع الريال البرازيلي بنسبة 20% أمام الدولار منذ بداية 2018.
وصول بولسونارو إلى الحكم سيكون أقل ضرراً في نظر الأسواق، وإن اعترف بعجزه الكامل على صعيد الاقتصاد، فقد عين "وزيره للاقتصاد"، الليبرالي باولو غيديس، مع إعطاء دفع جدي، بفضل إصلاحات تقشفية شجاعة، لاقتصاد لديه نحو 13 مليون عاطل عن العمل. كذلك عليه وقف دوامة العنف المسلح، وهو مصدر قلق آخر للبرازيليين، مع الصحة والتعليم والإسكان، وهي قطاعات تفتقر بشدة إلى الموارد.
فبولسونارو" الملقب بـ"ترامب البرازيلي" هو ضابط سابق في الجيش يبلغ من العمر 63 عاما يرأس حزبا صغيرا هو "الحزب الاجتماعي الليبرالي"، ويرغب في التقرب من الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ووعد بإقفال السفارة الفلسطينية في برازيليا ونقل سفارة بلاده من "تل أبيب" الى القدس، ويتبنى مواقف قوية حيال الحد من ارتفاع معدلات الجريمة في البرازيل، مع تعهده بحماية القيم الأسرية التقليدية. وهو يطلق باستمرار تصريحات مهينة ضد النساء والفقراء، كما يبدي إعجابا شديدا بالحكم العسكري الديكتاتوري الذي حكم البلاد بين (1964-1985).
ومؤخراَ تعددت التحليلات والمتابعات والأحاديث عن مستقبل الديموقراطية في أمريكا اللاتينية، مع صعود الخطاب الشعبوي فيها ووصول اليمين المتطرف إلى السلطة في العديد من البلدان منها. وذلك لأن الشعبويين يقدمون إجابات سهلة للناس، المتعطشين بدورهم لهذا النوع منها.
من الواضح، أن الديمقراطية في أميركا اللاتينية دخلت صراعاً ستكون فيه على المحك، إما الانتصار للقيم والمبادئ التي رسختها على مدار العقود التي خلت وتقليص فاتورة وصول اليمين المتطرف فيها، أو دخول هذه التجربة في أزمة ربما يكون التعافي منها مستقبلاً صعباً.