ارشيف من :نقاط على الحروف
سنة ثالثة ’تعويم’.. واقع صعب وأرقام ساحقة
عامان صعبان والبقية تأتي، في ظل قرار الحكومة بتحرير سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأميركي، ما أدى لانهياره فورًا، تراجع مستمر إلى هاوية من الديون والفوائد، وارتفاعات جنونية للأسعار، وسياسة حكومية ترفع كل ما تقابله من خدمات، وتحول هائل في علاقة المواطن والدولة إلى علاقة جباية تنتمي للعصور القديمة، وإنجازات لا يراها إلا حضور مؤتمرات النخبة المنتقاة، ولو شئنا الدقة لوصفناها بـ"النكبة".
الحكومة التي اختارت، بكل عناد، السير وراء توصيات صندوق النقد الدولي، لإصلاح المالية العامة، لم تدرك في البدء أن الإصلاح في طريق لا يعرفه الشعب ولا يثق به، لن يثمر عن أي إنجاز، فالأعباء الضخمة الناتجة عن قرارات اقتصادية "غير حكيمة" تلطم فقط الطبقات الأفقر، بينما تظل قلة مستفيدة من الظروف الجديدة الناشئة.
ولإن الأزمة في مصر هيكلية وليست عارضة، فإن ما ابتغاه المسؤولون من ارتفاع الصادرات وتقليل الواردات لم يحدث، فينما زادت الواردات لتسجل 49 مليار دولار خلال أول 9 شهور من عام 2018، بنسبة زيادة 14%، فإن الصادرات سجلت نسبة زيادة 11% فقط، لتحقق 18.51 مليار دولار فقط، أي أن الصناعة لم تستفد من تقليل سعر العملة المحلية.
السبب الحقيقي وراء هذا أن هيكل الاقتصاد المصري ينقسم إلى: 17% للصناعات التحويلية و12% للزراعة و15% للصناعات الأخرى (تشييد كهرباء تعدين) والـ 55% الباقية للخدمات، وبالتالي فإن الصناعة تساهم بالنسبة الأقل في الاقتصاد، وخلفها الزراعة، وتدفع دومًا إلى الاستيراد لمواجهة متطلبات البلد.
والمواطن المصري شهد خلال العام الماضي وحده معاناة مزدوجة، زادت فيه الأسعار لمستويات غير مسبوقة، بعد زيادات في أسعار المحروقات، في شهر حزيران/ يونيو الماضي للمرة الثالثة، بمتوسط 50%، منذ التعويم، في أواخر عام 2016، وذلك ضمن إجراءات التقشف الاقتصادي المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، من أجل منح مصر قرضا بقيمة 12 مليار دولار، على مدار ثلاث سنوات، بجانب قرار منتظر لرفع الأسعار للمرة الرابعة في شهر كانون ثاني/ يناير المقبل.
وزادت الحكومة أيضًا أسعار الكهرباء، في شهر تموز/ يوليو الماضي، بمتوسط نحو 26% بداية من أول السنة المالية الحالية 2018-2019، بعد زيادة أسعار المياه في بداية رمضان الماضي، ووصلت نسبة الزيادة الأكبر في شرائح استخدام الكهرباء إلى 70% على حساب الفقراء الأقل استهلاكا للكهرباء.
وتضمنت خطة الإصلاح الاقتصادي تحرير سعر صرف الجنيه المصري، وخفض دعم الطاقة والمياه سنويا، وانعكست الزيادات على معدل التضخم السنوي في مصر، والذي شهد ارتفاعات قياسية منذ تحرير سعر الصرف، وتجاوز 34% في آب/ أغسطس 2017، كواحد من أكبر الأرقام القياسية المسجلة للتضخم في التاريخ المصري، وفي الشهر الماضي سجلت نسبة التضخم 17.5%، رغم أن المقارنة تجري هنا مع عام التعويم، والأرقام طبقًا للمعلن من جانب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي.
ويعرف التضخم بأنه المعدل الإجمالي لزيادة سعر السلع والخدمات في اقتصاد ما خلال فترة معينة من الزمن، وهو مقياس لتخفيض قيمة عملة البلد، وتأتى مهمة البنك المركزي، من خلال مراقبة التضخم وضبط أسعار الفائدة وفقًا لذلك، بهدف لتحقيق التوازن.
كل الإجراءات الحكومية المتخذة لم تفلح في وقف مسيرة الاستدانة الواسعة والمتنامية، وسجلت مصر أكبر زيادة في الديون عبر تاريخها، فارتفعت الديون الخارجية –وهي العنصر الأخطر- من 43.2 مليار دولار في يونيو/حزيران 2013 إلى 92.6 مليار دولار في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أي بزيادة تفوق الضعف في 5 سنوات فقط، والأرقام طبقًا للبيانات الدورية المعلنة من جانب البنك المركزي المصري.
الديون الداخلية أيضًا سجلت قفزة ضخمة، وسجل حجم الدين الداخلي نحو 3.695 ترليون جنيه في نهاية شهر حزيران/ يونيو الماضي، في مقابل نحو 2.5 ترليون جنيه فقط، خلال عام 2016 قبل التعويم، أي بزيادة 1.1 ترليون جنيه في عامين فقط.
الأخطر في أرقام الديون المرتفعة، إنها تؤدي إلى زيادة مماثلة في أعباء خدمتها، فارتفعت المخصصات مقابل سداد الفوائد والأقساط إلى 817 مليار جنيه في موازنة 2018/2019، كخصم مباشر من المخصصات للاستثمار والحماية الاجتماعية والدعم والأجور وغيرها.
بين حكومة لا تعرف حدود دورها، وشعب بات يئن ويصرخ علنًا، فإن القاهرة مقبلة على شتاء ساخن، بقدر سخونة أحداث المنطقة، وربما أسوأ، فالبديل لم ينضج بعد، والضغوط المعيشية باتت لا تحتمل، والناس بدأت في التخندق عكس نظامها الحاكم، وصولًا إلى الشماتة بالسقطات والكوارث، وهو أمر يلقي بظلال كثيفة من الشك على استمرار الوضع الراهن لمستقبل منظور.