ارشيف من :آراء وتحليلات
رعب قصف تل أبيب يسكن قادة العدو
ليس أمراً عابراً أن يقر قائد الجبهة الداخلية اللواء "تامير يدعي"، أنه في الحرب المقبلة لن يكون بامكان سكان تل أبيب شرب القهوة في الوقت الذي يخوض الجيش القتال على الجبهات الامامية. وليس أمراً عابراً أن يصدر مثل هذا الاقرار عن المسؤول المباشر عن القضية التي يتحدث عنها، وهو المعني بأن يقدم صورة دقيقة عن هذا الواقع أمام الجمهور الاسرائيلي، الذي يدرك بأن ما قاله هو تعبير عن تقدير وموقف المؤسسة العسكرية ومن فوقها القيادة السياسية.
مع ذلك، لم يقدم "يدعي" جديداً عندما تحدث بهذا المضمون، بالنسبة لجمهور المقاومة. وفي المقابل، ينطوي هذا التقدير على مجموعة من الرسائل التي تتصل بمضمونه وتوقيته وسياقه. خاصة وأنه أتى ايضا، بعد أكثر من شهرين من اقرار مشابه على لسان وزير الأمن في حينه، أفيغدور ليبرمان الذي أوضح في "المؤتمر الاقتصادي القومي"، الذي أقامته مجلة "كلكليست" الاقتصادية (5/9/208): "يجب أن نفهم أنه في الشرق الأوسط كان هناك تغييران استراتيجيان حقيقيان: أولاً، أعداؤنا امتلكوا صواريخ دقيقة، والأمر الثاني هو أن الجبهة الداخلية تحوّلت إلى الجبهة الأساس في الحرب المقبلة، فإذا ما حارب الجنود في حرب يوم الغفران (حرب 1973) على الجبهة، وهنا في تل أبيب جلس الناس مع قهوة وصحيفة... الآن كل شيء تغير".
تعكس هذه المواقف على لسان وزير الأمن وقائد الجبهة الداخلية، مدى تغلغل ورسوخ هذه الحقيقة في وعي وحسابات مؤسستي القرار السياسي والعسكري. ويأتي ذلك بعد سنوات من الخطط العسكرية والمناورات وتطوير القدرات، التي كان من المفترض أن تجعل الكيان الغاصب أكثر أمناً فإذا بكبار قادته يقرون بتعاظم التهديدات على جبهته الداخلية، مع ادراكهم لما قد يترتب على هذا الاقرار، من مفاعيل نفسية سلبية على الرأي العام الاسرائيلي.
من هنا، فإن الاقرار بهذا الواقع المرير بالنسبة لكل اسرائيلي، بدء من رأس الهرم السياسي والعسكري الى أصغر مستوطن، ينطوي على أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه:
لم تتبلور هذه الحقيقة في وعي وحسابات مؤسسة القرار الاسرائيلي، إلا بعد مخاض طويل من الصراعات التي مرت بمحطات وتحولات، هدفت في سياقها تل ابيب الى محاولة قطع الطريق على تعاظم قدرات محور المقاومة وعلى رأسه حزب الله وقوى المقاومة في فلسطين. ولهذه الغاية، شنت اسرائيل حروبا على لبنان وغزة... وفشلت، ولم تترك عاصمة دولية إلا وتواصلت معها، مستعينة بها، لمنع تشكل هذا الواقع. وتحاول في نفس السياق، من خلال اعتداءاتها المتواصلة على سوريا... لمنع عودة بناء وتطوير قدرات الدولة السورية...
في المقابل، أظهر محور المقاومة تصميماً وحزماً وكفاءة عالية جدا في ادارة هذه المعركة، التي هي في الواقع معركة جهوزية ستحدد مآلاتها مستقبل معادلات الصراع في المنطقة. وتكفي التهديدات الاسرائيلية عن خطورة تعاظم حزب الله وبناء القدرات في سوريا لتكشف عن عمق الفشل الذي أصاب "اسرائيل" في هذه المعركة المستمرة التي هدفت الى منع هذا المسار التصاعدي في عملية بناء وتطوير القدرات، على المستويين الكمي والنوعي.
يكشف هذا الاقرار ايضا، عن عمق حضوره في وعي وحسابات مؤسسة القرار السياسي والعسكري، لدى دراسة خياراتهم العدوانية. وهو ما يفسر هذا الانكباح في مواجهة حزب الله في لبنان، وايضا يفسر جانب أساسي من مجريات الجولة القتالية التي حدثت قبل أيام مع قطاع غزة.
في السياق نفسه، ينطوي هذا الاقرار على اقرار ملازم له، بأن الجيش يقر بأنه لا يملك القدرة على تدمير قدرات حزب الله الصاروخية في أي مواجهة عسكرية. وما الحديث عن تساقط الصواريخ على تل ابيب، إلا محاولة لمصارحة الجمهور الاسرائيلي بهذه الحقيقة المرة.
على خط مواز، يقر قائد الجبهة الداخلية ايضا، بأن "اسرائيل" لا تملك القدرة على ردع حزب الله عن استهداف تل ابيب، اذا ما أقدمت على ما يوجب هذا المستوى من الردود.. ولذلك، فإنه يطلب من الجمهور أن يدرك هذه الحقيقة بأن عليه أن يُوطِّنوا أنفسهم على هذا السيناريو.
هذه الحقائق التي استطاع حزب الله أن يزرعها في وعي قادة العدو، دفعتهم وستدفعهم الى مواصلة العمل على استنفاذ كل الخيارات البديلة التي تحول دون التدحرج نحو هذا السيناريو. وهو ما يفسر الكثير من المواقف والخيارات التي شهدناها ونشهدها حتى الان. بل إن هذا الرعب الذي يسكنهم من مفاعيل هذا الخيار، يفرض عليهم ايضا، أن تكون أي مواجهة مفترضة قصيرة، انطلاقا من ادراكهم بأنه كلما طال امدها كلما ازداد أعداد الصواريخ التي ستدك تل ابيب ومحيطها. وهو ما سيؤدي بالضرورة الى تعاظم الضغط الداخلي على القيادة السياسية بهدف وقفها. وهكذا يصبح تهديد العدو بالمبادرة أو حتى الرد بتدمير البنية التحتية اللبنانية، أقرب الى الشعر الذي يتغنى به الاسرائيليون، كونهم يدركون بأن ذلك سيقابله استهداف البنية التحتية الاستراتيجية الاسرائيلية. ويدركون ايضا، أن الهيكل سيتصدع ويصبح أقرب الى الانهيار في أعقاب مواجهة بالحجم التي يضطر معها حزب الله الى دك عمقه الاستراتيجي.