ارشيف من :ترجمات ودراسات
قراءة في إتفاقية الهدنة مع العدو بعد التحرير والانتصار وتوازن الرعب
لؤي توفيق حسن(*)
بدت اتفاقية الهدنة اللبنانية ـ الاسرائيلية للعام 1949 عند بعض الساسة اللبنانيين بأنها "تجميد لحالة الحرب" ما دفعهم للمطالبة بعودتها الى حيز التطبيق (كوصفة سحرية) تجنب لبنان مأزق ـ أو (حرج)! ـ الصلح مع اسرائيل، كما تجنبه البقاء "ساحة" مفتوحة للمواجهة معها، هذا على حد وصفهم!
لعل ما سبق يتأثر بما كان قد كتبه دبلوماسي "ظرفي" ـ (والوصف هذا له) ـ يعتبر الاتفاقية المذكورة بأنها "الأوثق" بل ومن "الأهمية الفذة" حتى بدت له "أهم وأفعل من القرارات 425،426، 508، 509 الى آخر السلسلة المستمرة".
وأياً كانت النيات من وراء هذا الطرح فإن امكانية وجوده على ساحة الواقع، تذكرنا بما قاله عن العرب السياسي الروسي المعروف بريماكوف: "يعتقدون بأنهم ما إن يفتحوا أشرعة سفنهم حتى تهب الرياح لتدفعها الى حيث يريدون"!..
ترى هل تمعن هؤلاء في اتفاقية الهدنة جيداً!
وقابلوها بظروفها وحسابات اسرائيل الآن انطلاقاً من المستجد من أهدافها ثم بعد تراكم هذا الكم من المتغيرات على ملف "قضية الشرق الأوسط" خلال ستة عقود، يبرز سؤال جوهري عن مصلحة لبنان في العودة للاتفاقية المذكورة، هذا في الأساس، أما في الشكل فإن هذه العودة باتت غير ممكنة لسببين: الأول ـ ان اسرائيل قد بادرت من جهتها الى الغاء الاتفاقية تلك بعد عدوان حزيران 1967 مباشرة، أسوة بما فعلته في اتفاقيات الهدنة مع كل من مصر وسوريا والأردن، معتبرة في الحالة اللبنانية بالتحديد ان قرار اطلاق النار رقم 62 لعام 48 هو "الاداة القانونية التي تنظم علاقات الدولتين"!
الثاني ـ ان القرار 1701 قد نسخ بالكامل اتفاقية الهدنة بالروح وبالنص كما سيأتي لاحقاً.
وقائع
بعد اعلان اسرائيل على لسان وزير خارجيتها ابا ايبان في 3 آب 1967 عن الغائها لاتفاقية الهدنة مع لبنان توقفت عن حضور اجتماعات لجنة الهدنة.
وبصرف النظر عن الأسباب التي تذرعت بها اسرائيل آنذاك ـ وهي واهية جداً ـ فان الامم المتحدة جارتها حيث كان آخر قراراتها التي أشارت لاتفاقية الهدنة هو القرار 501 تاريخ 25 شباط 1982 أي قبيل الاجتياح، وبعد ذلك غاب ذكر الاتفاقية المذكورة عن أي قرار دولي، بما فيها بالطبع القرار 1701 الذي حصر الأمر في حدود "وقف العمليات الحربية" أي نوعاً من المهادنة (Truse) كما كان حال القرار 62 لعام 48 السابقة لمفاوضات الهدنة، أما الفارق بين المهادنة والهدنة (Armistice) فهو أساسي وفقاً لفقهاء القانون الدولي.
وبعيداً الآن عن التفاصيل فإن ما ورد في القرار 1701 يخالف تماماً كل ما جاءت به بنود الهدنة لا سيما تحديدها لمنطقة شبه معزولة، أو خفيفة التسليح، على جانبي الحدود، فيما يطرح القرار المذكور آليات جديدة تنصب على جانب واحد هو اللبناني فقط!.
ومن غير عناء سيجد المطلع على القرار 1701 ان خلفياته تستهدف المقاومة حصراً، حركة وامداداً وكل ما يلغي مميزاتها التكتيكية والتعبوية، بحيث تصبح فيما بعد هدفاً سهلاً لعمل عسكري اسرائيلي (الفقرات 8 ـ 10 ـ 12 ـ 14 ـ 15).
لكن من جهة أخرى فان التدقيق بما ورد في اتفاقية الهدنة يكشف عن خلفيات ليست أقل سوءاً ويتجلى ذلك في أمرين:
الأول ما جاء في الفقرة الثالثة من المادة الرابعة وهي: "ان تعليمات قوات الفريقين التي تحرم على المدنيين اجتياز خطوط القتال أو دخول المنطقة الواقعة بين هذه الخطوط، تبقى سارية بعد توقيع هذا الاتفاق، وذلك بالنسبة الى خط الهدنة المحدد في المادة الخامسة"، والمقصود بحسب المادة الأخيرة "الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين" والتي جاءت بناءً على ما يعرف باتفاقية (بوليه ـ نيو كومب) عام 1922 خلال الانتدابين الفرنسي والبريطاني.
هذه الفقرة جاءت بناءً على طلب الوفد الاسرائيلي، ولم يدرك يومها المفاوض اللبناني مغزاها، ولكنها كانت في الواقع فخاً موصوفاً أفصح عنه فيما بعد شبطاي روزين عضو وفدها لمفاوضات الهدنة بقوله: "بترجمة ذلك النص الى اللغة السياسية فانه يعني ان لا تغير في التوزيع الجغرافي للاجئين العرب، وذلك باتفاق الطرفين"!!
واستطراداً يرى بعض العارفين أنه كان على المفاوض اللبناني أن يصر في هذه النقطة على أن "انتقال السكان" يخضع لاعلان بروكسل (1847) أو اتفاقية لاهاي الثانية (1899) التي نصت على "حق الأطراف المتحاربة تنظيم تنقل السكان المتواجدين على مسرح الحرب"، وهذا سيؤدي في المحصلة الى ترك الأمر معلقاً على الأقل لحين مفاوضات أخرى مثلاً!!
ان ما سبق هو منحة لاسرائيل متى علمنا أنه جرى في ظل اتفاق يغلب على محتواه الطابع السياسي وهذا ما تظهره مقدمة الاتفاقية التي حددت أهدافها في "تسهيل الانتقال الى سلم دائم"، اما المادة الأولى والثالثة فهي تترجم هذا بنصوص واضحة مثل: ان الهدنة هي خطوة من أجل "تصفية النزاع المسلح واعادة السلم" استناداً الى "حق كل من الفريقين في أمنه واطمئنانه"، وهكذا حصلت اسرائيل يومذاك على أكثر مما تتوقع، تقييد عودة اللاجئين و"الاعتراف المتبادل بوضعية الدولة لكل فريق" بحسب ما قاله أحد أعضاء وفدها لمفاوضات الهدنة، حتى حق لأبا ايبان القول: "ان السنة ما بين أيار 1948 وأيار 1949 كانت رائعة ولا نعرف مثيلاً لها".
الثابت والمتحرك
إذاً لماذا ألغت اسرائيل اتفاقية الهدنة؟
يندرج ذلك اطار (الثابت والمتحرك) في الاستراتيجيا فبعد حزيران 67 لاح هدفان باتا الآن من ثوابت الاستراتيجية الاسرائيلية:
ـ تصفية القضية الفلسطينية.
ـ وضع اليد على (الخزان المائي) اللبناني لسد عجزها المتزايد، وهذا ما عبر عنه صراحة العديد من القادة الصهاينة بل وترجمته اسرائيل خلال احتلالها للجنوب "بأكبر سرقة للمياه اللبنانية" كما أورده أكثر من تقرير، منها ما جاء على لسان البروفسور الاميركي توماس ناف.
وإذا باتت اتفاقية الهدنة لا تلبي هذين الهدفين الاسرائيليين فإنها بالتأكيد لا تقدم للبنان الضمانات التي يريدها إلا بحالتين على الأقل.
الأولى: الغاء الفقرة الثالثة من المادة الرابعة الآنفة الذكر.
الثانية: تصحيح الخلل الوارد في ملحق اتفاقية الهدنة بحيث تصبح المنطقة شبه المعزولة من السلاح في الجانب الاسرائيلي بذات العمق والمساحة في الجانب اللبناني.
لكن هذا سيؤدي الى ايجاد مساحة كبيرة (خفيفة التسليح) خلف هضبة الجولان المحتل!! الأمر الذي سترفضه اسرائيل لأسباب عسكرية (على الأقل) نظراً لما يشكله من اضعاف لعمق خطوطها العسكرية في مواجهة سوريا.
تكفي هذه المناقشة كي تعيدنا ببساطة الى المربع الأول، أي الى "وحدة المسارين" السوري ـ اللبناني.
(*) كاتب من لبنان