ارشيف من :ترجمات ودراسات

المفاوضات الأميركية ـ السورية حول العراق.. دمشق تُحكم قبضتها

المفاوضات الأميركية ـ السورية حول العراق.. دمشق تُحكم قبضتها

طلبت واشنطن من دمشق بهدوء أن تستخدم نفوذها لدفع عملية المصالحة بين «فتح» و«حماس»
 

إعداد: علي شهاب

تمثل القضية اللبنانية أسهل القضايا في سلة المفاوضات السورية – الأميركية، خاصة اثر الجمود الذي تشهده عملية السلام في المنطقة، علما ان ما يمكن ان تفاوض عليه واشنطن دمشق في هذا الملف يتوزع بين تشكيل الحكومة وترسيم الحدود السورية اللبنانية وإغلاق قواعد "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة". غير ان ملفات أخرى أكثر أهمية بالنسبة للعلاقة الأميركية – السورية هي التي تحدد ميزان القوى في المنطقة.
الباحث الأميركي في معهد واشنطن والمتخصص في شؤون الدول العربية أندرو تابلر وضع تقريرا بحثيا نشرته مجلة "فورين بوليسي" تحت عنوان "الأسد لأوباما: شكرا، ولكن عرضك لا يلائمني" شرح فيه أوراق القوة السورية التي تستحوذ على اهتمام واشنطن.

في مستهل الأسبوع الماضي، وبعد قرابة سبعة أشهر من تولِّي إدارة أوباما مقاليد السلطة وبداية تعاملها الحذر والحاسم مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، سرت شائعات في واشنطن ومنطقة الشرق الأوسط بأن البيت الأبيض كان يستعد لفتح صفحة جديدة مع دمشق. وسيكون أول اختبار لهذه العلاقة الجديدة حول القضية التي تسببت في انهيار العلاقات الأمريكية السورية منذ أكثر من ستة أعوام: تدفق المقاتلين من سوريا إلى العراق.
لقد كان نهج إدارة أوباما للتواصل مع سوريا واضحاً وصريحاً. فقد شمل ست زيارات رفيعة المستوى قام بها مسؤولون أمريكيون إلى سوريا، وإعلان واشنطن بأنها ستعيد سفيرها إلى دمشق، وما أُفيد عن بعث رسالة من الرئيس أوباما إلى الرئيس الأسد، وتسهيل الحصول على رخص تصدير - لقطع غيار لطائرات - كان قد تم وقف العمل بها في ضوء العقوبات الأمريكية ضد سوريا.

زيارة الاسد الى ايران تُظهر بأن دمشق تبقى راسية بصورة راسخة في "محور المقاومة" تحت القيادة الإيرانية 
ومنذ أسبوعين، قام وفد برئاسة "القيادة المركزية الأميركية"، بزيارة إلى دمشق تمخضت عن اتفاق مبدئي مع سوريا بشأن التقييم الفني لمراكز الحدود العراقية السورية. وبسبب انزعاجه من عدم مشاركته في تلك المحادثات الواعدة، قام رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بزيارة إلى دمشق في الأسبوع الماضي لإبرام الاتفاق الثلاثي. وقد أدت سلسلة الانفجارات التي "استقبلته" لدى عودته في 19 آب/أغسطس – وهي الأكثر دموية خلال فترة تزيد على 18 شهراً، وتزعم «القاعدة» حالياً بأنها كانت مسؤولة عنها – إلى قيام بغداد بمطالبة سوريا بطرد البعثيين العراقيين والمقاتلين من أراضيها واستدعاء سفيرها. وردت دمشق على ذلك بالمثل، حيث أدى ذلك إلى الإطاحة عملياً بمبادرة واشنطن وهي في طور الإطلاق.
وحتى الأسبوع الماضي، بدت المحادثات حول القضايا المتعلقة بالأمن الإقليمي العراقي وكأنها بصيص من الأمل على عكس الحالة القاتمة التي كانت تبدو فيها عملية المشاركة الأمريكية السورية. فعلى مدى الأشهر السبعة الماضية، طلبت واشنطن من دمشق بهدوء، أن تستخدم نفوذها لدفع عملية المصالحة بين «فتح» و«حماس». وفي أعقاب الزيارة الأخيرة التي قام بها إلى دمشق المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط جورج ميتشيل، قامت سوريا، جنباً إلى جنب مع تركيا ومصر، بالضغط على «حماس» للسماح لأعضاء «فتح» في قطاع غزة بحضور مؤتمر حزبهم في وقت سابق من هذا الشهر – وهي خطوة أولى مهمة نحو تشكيل موقف فلسطيني موحَّد. لكن ذلك لم يحدث.
وعوضاً عن ذلك، ادعت دمشق لنفسها الفضل في تحقيق "انفراجة" بديلة – إعلان حركة «حماس» الأخير بأنها سوف تقبل وتحترم حدود عام 1967 بين إسرائيل والفلسطينيين، مقابل الاعتراف الإسرائيلي بحق عودة الفلسطينيين والسماح بإنشاء عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية. لكن لم يفِ هذا الموقف بالشروط التي وضعتها "اللجنة الرباعية الدولية" (التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة): قيام الأطراف في عملية السلام بالاعتراف بإسرائيل بدون شروط مسبقة، والالتزام بالاتفاقيات السابقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية و"نبذ العنف" كوسيلة لتحقيق الأهداف. وفي ما يتعلق بمحادثات السلام مع إسرائيل، لا تزال دمشق تطالب بالتزام إسرائيل بالانسحاب من مرتفعات الجولان إلى حدود 4 حزيران/يونيو 1967، واستئناف المحادثات غير المباشرة التي قامت تركيا برعايتها من النقطة التي توقفت عندها في كانون الأول/ديسمبر الماضي. لكن إسرائيل، التي تفضّل إجراء مفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة وتحت رعاية الولايات المتحدة، رفضت ذلك.
لقد أدت الجهود الفرنسية في العام الماضي لاستمالة دمشق نحو فتح سفارة لها في بيروت وتعيين سفير لها هناك، إلى قيام العديد بالتكهن بأن دمشق على استعداد لفتح صفحة جديدة مع جارتها الغربية، لبنان. لكن السفير السوري لدى بيروت يقضي معظم وقته في دمشق، كما أصبح عدد من السياسيين اللبنانيين الموالين لسوريا مثل وئام وهاب هم الذي يطلقون التصريحات في الشأن اللبناني.
 يبقى دعم الولايات المتحدة لحلفائها العراقيين في محاولتهم دحر المقاتلين الرهان الأكثر أماناً بالنسبة لواشنطن
وفي أعقاب هزيمة حلفاء سوريا في انتخابات 7 حزيران/يونيو في لبنان، أصبحت دمشق وحلفاؤها يعرقلون تشكيل حكومة من قبل كتلة "14 آذار". وفي الوقت نفسه، أوضحت مقابلة أجرتها صحيفة "النهار" اللبنانية في 25 آب/أغسطس مع مسؤول أمريكي رفيع المستوى، مقدار خيبة الأمل التي تشعر بها واشنطن تجاه سوريا، وعلى الأخص قيامها بتهريب الأسلحة «المتطورة بشكل متزايد»، إلى حزب الله عبر الحدود اللبنانية السورية، التي لا تزال دمشق ترفض رسمها على الرغم من وعودها للقيام بذلك.
وفيما يتعلق بالعلاقات مع إيران، صرَّح الأسد خلال زيارته الرسمية الخامسة إلى طهران في 19 آب/أغسطس (أي في نفس اليوم الذي حدثت فيه الهجمات العراقية)، بأن إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في انتخابات حزيران/يونيو – والجدل الدائر حولها الذي عزا سببه إلى "التدخل الأجنبي" – كانت تعني بأن "على إيران وسوريا الاستمرار في السياسة الإقليمية كما كان في الماضي". إن هذه الزيارة، بالاقتران مع التقارير الأخيرة عن تحطّم صاروخ قصير المدى في شمال سوريا تم تطويره من قبل سوريا وإيران وكوريا الشمالية، فضلاً عن رفض نظام الأسد المتواصل الإجابة عن أسئلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن جسيمات اليورانيوم التي تم العثور عليها ليس في موقع نووي سوري واحد، وإنما في اثنين منها، تُظهر بأن دمشق تبقى راسية بصورة راسخة في "محور المقاومة" تحت القيادة الإيرانية.
لقد كان في نية واشنطن أن تكون المهمة برئاسة "القيادة المركزية الأميركية"، خطوة أولى على الطريق الطويل نحو تحقيق المصالحة مع دمشق، مع احتمال قيام مشاركات على مستوى أعلى من قِبَل المسؤولين الأميركيين. لكن المفاوضات والتفجيرات التي حدثت، إلى جانب انعدام الثقة الدبلوماسي الذي تولد عنها، يُظهر المقدار الفعلي لمدى الخطورة في إشراك دمشق في عملية تأمين الحدود العراقية وعدم التأكد منها. وتتمثل الطريقة الوحيدة لوضع "حل" لهذه القضية بصورة فعلية، في قيام دمشق بالتنصل علناً ممن يدعمون تنظيم «القاعدة» في داخل البلاد، وطرد البعثيين العراقيين الذين يدعمونهم من أراضيها. بيد، أن التفجيرات المميتة التي حدثت في العراق الأسبوع الماضي تُظهر بوضوح بأن دمشق ليست مستعدة للقيام بمثل هذه الخطوة.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن المشكلة الفعلية في دخول المقاتلين إلى العراق لها علاقة أقل بالترتيبات الأمنية على طول الحدود، وتتعلق بصورة أكثر بـ "الصفقة الفاوستية" - [نسبة الى الطبيب فاوست الذي باع نفسه للشيطان] - التي أبرمها النظام السوري الذي تسيطر عليه الأقلية العلوية، وبمقاتلي تنظيم «القاعدة» من السنّة الذين يعتبرون مضيفيهم مرتدّين. يُذكر أن هذا الاتفاق، الذي تمت صياغته خلال ذروة الحرب الباردة بين الأسد وإدارة جورج بوش، هو بمثابة ستار لداعمي تنظيم «القاعدة» ولـ"خطوط الفئران" - [التي يُقصد بها طرق التسلل] - التي يديرها المقاتلون الجهاديون داخل العراق وخارجه. إن سوريا غير مستعدة لعزلهم بسبب مخاوف من حدوث هجمات داخلية. وباختصار، تريد دمشق انخراط الولايات المتحدة على مستوى عال، بدون تقديم تضحيات صعبة.
خلال فترتي السبعينات والتسعينات من القرن الماضي، عندما قامت الولايات المتحدة بتجربة عدد من السياسات التي تمثلت بـ "مشاركة بنَّاءة" مع دمشق، والتي أثبتت في النهاية بأنها لم تكن ناجحة، كانت واشنطن ستسمح لسوريا بتجنب هذه القضية والتعامل معها بهدوء من "وراء الكواليس". بيد، أن التفجيرات التي حدثت في الأسبوع الماضي إلى جانب الهجمات الأخرى التي قام بها المقاتلون من سوريا هذا العام، تُظهر بأن غض النظر عن هذا الأمر الذي تقوم به دمشق يسمح لنظام الأسد أن "يُبقي يده على صنبور" المقاتلين الأجانب. إن هذا يترك زمام المبادرة الإستراتيجية في أيدي دمشق لتستخدمها كوسيلة للضغط، في الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بالانسحاب من العراق. ومن المرجَّح أن يبقى دعم الولايات المتحدة لحلفائها العراقيين في محاولتهم دحر المقاتلين، الرهان الأكثر أماناً بالنسبة لواشنطن.

2009-09-23