ارشيف من :أخبار لبنانية
من يخلّصنا من جاهليتنا الجديدة؟
أقام العرب القدامى طويلاً في جاهليتهم حتى استعصى عليهم الخروج منها، فكانت البعثة النبوية صراط الهداية والخلاص.اليوم يرتع العرب في جاهلية جديدة، وقد استعصى عليهم الخروج منها، ولا سبيل إلى نبّوة مخلّصة لأن الرسول الأعظم كان خاتم النبيين، فماذا نفعل؟
ليس أدل على استفحال الجاهلية الجديدة من موقف محمود عباس وربعه في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في جنيف. فقد أوعز الى مندوبه في المجلس بتأجيل التصويت على التقرير الصادر عن لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في حرب “إسرائيل” على غزة. وكانت اللجنة المذكورة برئاسة القاضي اليهودي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون قد دانت “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ودعت مجلس حقوق الإنسان إلى إحالة التقرير على مجلس الأمن الدولي، كما دعت “إسرائيل” إلى التحقيق في الجرائم المنسوبة إليها خلال مهلة محددة، وإذا لم تستجب يصار إلى إحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية.
لم يسبق لهيئة أممية أن دانت “إسرائيل” بهذه القوة والشفافية، ولم يسبق للفلسطينيين أن نالوا دعماً أممياً لقضيتهم كالدعم الصريح والمدوّي الذي وفرّه لهم تقرير غولدستون. ومع ذلك فقد فرّط رئيس السلطة الفلسطينية بالتقرير التاريخي كما فرّط من قبل بالقرار التاريخي الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي القاضي بلاشرعية جدار الفصل الذي بنته “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
قد يعترض البعض على تعميم حال الجاهلية الجديدة على العرب من غير الفلسطينيين طالما عباس وربعه هم وراء طلب تأجيل التصويت على تقرير غولدستون. الحقيقة العارية هي أن الدول العربية والإسلامية تجاوبت مع مندوب فلسطين وسارعت الى الموافقة على طلب تأجيل التصويت عليه.
قيل الكثير في الأسباب والدوافع التي حملت عباس على “ارتكاب” قرار تأجيل التصويت، وبعضها يمس بقدرته وتقديره للأمور وبعضها الآخر يمس بنزاهته. غير أن ما استوقفني بينها ما قاله مقرر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية ريتشارد فولك. فقد أكد هذا المسؤول الأممي الإنساني الواسع الخبرة والشديد الجرأة أن “ما حصل هو أنه في اللحظة الأخيرة سحبت السلطة الفلسطينية التقرير مقترحةً عدم مناقشته حتى شهر مارس/آذار المقبل. وهو ما اُعتبر ضربة قوية لجهود أخذ توصيات التقرير على محمل الجد. كان محيراً أن ينقذ الفلسطينيون أنفسهم “إسرائيل” من هذه المعضلة التي وجدت نفسها فيها. ومن التبريرات الغريبة التي قُدمت لقرار سحب التقرير أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” هددتا بقطع جزء من التمويل الذي تتلقاه السلطة الفلسطينية، أو أن بنيامين نتنياهو هدد بأن استخدام التقرير سيقتل عملية السلام، وبطبيعة الحال ليست هناك عملية سلام يمكن وأدها. وكان فولك قد أشار ايضا إلى تخمينات أن “إسرائيل” لن ترخّص لشركة خليوية في الضفة الغربية بالحصول على موجات تردد إذا لم تسحب السلطة الفلسطينية دعمها للتقرير، “وقد صادف ذلك بشكل غريب أن رئيس هذه الشركة هو ابن رئيس السلطة محمود عباس”.
تتضح من شهادة فولك حقائق خمس:
أولاها، أن السلطة الفلسطينية وليس غيرها هي من بادر إلى سحب تقرير غولدستون واقتراح عدم مناقشته.
ثانيتها، أن تأجيل مناقشة التقرير والتصويت عليه يسيء إلى صدقيته، إذ يمكّن “إسرائيل” والولايات المتحدة من إشاعة جو من التشكيك بتوصياته والقول إن الفلسطينيين ما كانوا ليطلبوا تأجيل التصويت عليه لو كانوا مقتنعين بأنه يكتسب الحد الأدنى من الجدية التي تسمح لممثلي الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان بإجازته وإحالته على مجلس الأمن.
ثالثتها، أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” هددتا بقطع التمويل أو جزء منه الذي تتلقاه السلطة من بعض دول حلف شمال الأطلسي الأمر الذي يعني أن أمريكا و”إسرائيل” تدركان مدى تمسك عباس وربعه بالسلطة وباستعداده تالياً لفعل أي شيء يمكّنه من الاستمرار فيها.
رابعتها، أن عباس ما زال يعتقد، رغم كل ما جرى، ولاسيما خيبته الكبرى في قمة نيويورك الثلاثية أواخر الشهر الماضي، بأن العملية السياسية ما زالت قائمة وإلاّ ما كان نتنياهو ليحذره من إمكان “قتلها” إذا ما أصرت السلطة الفلسطينية على مناقشة تقرير غولدستون.
خامستها، أن محمود عباس “فعلها” كرمى لعينيّ ابنه الساعي الى الحصول على ترخيص من “إسرائيل” لشركته الخلوية الجديدة.
هذه الحقائق الخمس التي كشفها مسؤول أممي مستقل، شريف، رصين وجريء تشكّل أدلة دامغة على مدى الجاهلية المعاصرة التي يرتع فيها أهل السلطة في فلسطين المحتلة والمغتصبة. وإذا كان فولك يجزم بأن “ليس هناك عملية سلام يمكن وأدها”، فإن محمود عباس يستعير من الجاهلية القديمة تقليد وأد البنات ليقوم في رحاب الجاهلية الجديدة لأمثاله من الحكام بوأد قضية بلاده جهاراً نهاراً من دون أن يرف له جفن.
ماذا نفعل، فلسطينيين وعرباً، حيال هذه الجاهلية الجديدة التي تعتبر السلطة أقدس من القضية، وحتى أقدس من الكرامة، فلا تتوانى عن وأدها بدم بارد صباح مساء؟
صحيح أن لا نبي جديداً يخلّصنا من جاهليتنا الجديدة، لكن ما زال في مقدور القوى الحية في أمتنا إنجاب قياديين شرفاء أفذاذاً قادرين بطموحاتهم وسلوكياتهم وجهادهم على محاكاة الأنبياء القادة في تجاربهم الدنيوية واجتراح خوارق الأعمال.
"الخليج" - عصام نعمان