ارشيف من :ترجمات ودراسات
طريق اختارته تركيا
ما زالت الدبلوماسية التركية تخطو كل يوم باتجاه يؤكد التحولات الكبرى التي طرأت على سياستها الخارجية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة خريف عام 2002.
ففي الأسبوع الفائت قررت الحكومة التركية توجيه صفعة جديدة لـ"إسرائيل" عندما قررت إلغاء مشاركتها في مناورات "نسر الأناضول"، التي تجري سنوياً بمشاركة أطلسية واسعة.
القرار التركي هو الأخير في سلسلة تحركات تهدف من جهة الرد على الخداع الذي مارسه رئيس حكومة العدو الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت عندما قام بزيارة أنقرة أواخر العام الماضي لطلب مساعدتها في تحريك مفاوضات السلام مع العرب في الوقت الذي كانت "إسرائيل" اتخذت قرارها بالعدوان على قطاع غزة، لذلك اعتبرت تركيا هذا التصرف استخفافا لا يليق بمكانتها ولا يجوز التسامح معه، فقررت الرد عليه حيثما سنحت الفرصة.
من جهة أخرى، تعمد تركيا إلى التأكيد أن علاقتها بـ"إسرائيل" لم تعد كما كانت في التسعينيات من القرن الماضي حجر الزاوية في سياساتها الشرق الأوسطية، وهو ما تحاول أنقرة البرهنة عليه بشكل يومي تقريباً، فتركيا لم تعد في وارد رهن أو حصر سياستها الخارجية بطرف أو تكتل معين، فهي كدولة إقليمية كبرى لها شبكة مصالح واسعة في إقليم بالغ الأهمية جرى تجاهله طويلاً.
في حسابات الربح والخسارة، تعي تركيا أن علاقات متينة مع محيطها الجغرافي يحقق لها منافع أكبر بكثير مما تحققه علاقتها بالمحتل الاسرائيلي، لا بل إن علاقتها بهذه الأخيرة تحولت إلى عبء لا يجوز الاستمرار في حمله وتحمله.
من ناحية أخرى، بدأت تركيا تدرك أن انخراطا اكبر في منطقة الشرق الأوسط يجعل طريقها إلى أوروبا وعموم الغرب أكثر يسراً، وهو عكس التقدير الذي ظل سائدا في أوساط النخب التركية حتى فترة قريبة بأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يستوجب الانعزال عن الشرق الأوسط ومشكلاته، فبمقدار ما تغوص تركيا في قضايا المنطقة بمقدار ما تزداد حاجة الغرب إليها وإلى دورها لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي.
تركيا ما كانت لتحقق هذا القدر من الاستقلالية في توجهاتها السياسية الخارجية لولا نجاحها في بناء قاعدة داخلية مستقرة وتحقيق إنجازات اقتصادية لافتة مكنتها من حجز مقعد بين الدول العشرين الكبرى على الساحة الدولية.
انقرة اليوم لم تعد تلك الدولة التي تستجدي المساعدات وتخضع للشروط المرفقة، بل دخلت نادي الدول المانحة حيث غدت حاجة الآخرين إليها تفوق بكثير حاجتها إليهم.
الأهم من كل ذلك، أن هذا التحول جاء متوافقاً مع نظرة انقرة لحاضرها وتاريخها ودورها المستقبلي كدولة محورية تربط ثلاثة من أهم الأقاليم في العالم: أوروبا والشرق الأوسط وقلب آسيا. وهي لذلك رأت أن تلعب هذا الدور من باب تبنيها لسياسة خارجية ذات بعد أخلاقي يقوم على نصرة الحق وعدم السكوت عن الظلم ورفض الخضوع للابتزاز.
قد لا يروق هذا الدور للكثيرين، لكن تركيا لن تأبه لمثل هذه الاعتراضات على الأرجح، وخاصة بعد أن ذاقت طعم احترام الذات وعرفت معنى معاملة الآخرين بندية.
صحيفة الوطن