ارشيف من :ترجمات ودراسات
"رصاص مصهور": الانتصار ينقلب هزيمة !
بقلم: الوف بن
تعتبر حملة "رصاص مصهور" في "إسرائيل" انتصاراً لامعاً. فقد توقفت نار الصواريخ من قطاع غزة على نحو شبه تام، وها هو الجيش الاسرائيلي نفض عنه اخفاقاته في حرب لبنان الثانية، وقد استخدم قوات برية بقلة من الخسائر، الاضرار في الجبهة الداخلية كانت صفرية وقد أيد الجمهور العملية بحماسة سمح "العالم" للحملة بالاستمرار، ولم يفرض وقف النار، يا لها من حرب رائعة.
بعد عشرة شهور يبدو أن العملية في غزة كانت انتصاراً محملاً بالهزيمة، لم تفهم إسرائيل بأن القواعد تغيرت مع انتخاب باراك اوباما رئيساً للولايات المتحدة رئيس الوزراء السابق ايهود اولمرت، حدد توقيت "رصاص مصهور" في الفترة بين العهدين في واشنطن، وقدر عن حق بأن الرئيس المنصرف جورج بوش سيمنح اسناداً مطلقاً ل"اسرائيل"، ولكن خلافاً لحرب لبنان الثانية التي انتهت مع وقف النار لا تزال حرب غزة مستمرة في الدبلوماسية وفي الرأي العام، وعلى "اسرائيل" أن تتصدى لآثارها في عهد اوباما الاقل وداً.
في الجولة الاولى، العسكرية، تمتعت "اسرائيل" بتفوقها الساحق في قوة النار.
في الجولة الحالية، نقل الفلسطينيون الحرب الى الساحة المريحة لهم، ويستغلون تفوقهم في مؤسسات الامم المتحدة وفي الرأي العام، دعوات مقاطعة "اسرائيل" تتعزز.
تركيا تنفض عنها الحلف الاستراتيجي مع "اسرائيل" وتعرض جنود الجيش الاسرائيلي كقتلة اطفال كريهين.
"حماس" تتلقى بالتدريج الاعتراف كجهة شرعية وتجمع الصواريخ دون معيق. زعماء "اسرائيل" منشغلون بالدفاع عن أنفسهم ضد تقرير غولدستون، ويخشون أوامر الاعتقال في اوروبا.
حتى لو توقفت المسيرة القانونية التي بادر اليها غولدستون، ولم تجلس "اسرائيل" في قفص الاتهام في لاهاي، فان أياديها قد كبلت، فالعالم بقيادة اوباما لن يدعها تنطلق الى "رصاص مصهور- 2"، وبالتأكيد ليس حين تكون تسيطر في القدس حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية، التي يطيب للعالم أن يكرهها.
محاولة نتنياهو، في خطابه في الكنيست هذا الاسبوع، الصاق الحرب في غزة بتسيبي ليفني، لم تنجح كثيراً فهو في السلطة والعالم يرى فيه مسؤولاً وليس الحكومة السابقة التي لم تعد في الحكم، الاميركيون والاوروبيون يستخدمون تقرير غولدستون كي يعاقبوا نتنياهو على رفضه تجميد المستوطنات.
الشيء ذاته حصل للفلسطينيين بين الانتفاضتين. عندما رشقوا الحجارة في الانتفاضة الاولى، ودارت المواجهة في الضفة الغربية وقطاع غزة هتف العالم لهم وأجبر اسرائيل على الاعتراف بـ "م.ت.ف" واقامة الحكم الذاتي لياسر عرفات في "المناطق".
اعتبر العنف الفلسطيني في حينه مقاومة ملائمة للاحتلال اما في الانتفاضة الثانية، فقد انتقل الفلسطينيون الى العمليات الانتحارية في مدن "اسرائيل"، وقتلوا الكثير من الاسرائيليين، ولكنهم خسروا في الساحة السياسية التي تغيرت فيها القواعد بعد عمليات 11 ايلول 2001 في اميركا العالم ملّ العمليات وسمح لارئيل شارون باعادة احتلال الضفة، وحبس عرفات في القفص والتخلص من غزة دون تسوية سلمية.
كيف حصل الخلل في غزة. حملة "رصاص مصهور" كانت العملية الاكثر تخطيطاً في تاريخ حروب "اسرائيل"، وملأ المبادرون لها كل الاستبيانات واشاروا اشارة النصر الى كل الاجراءات التي قررتها لجنة فينوغراد بعد حرب لبنان الثانية.
الاهداف كانت معقولة، السيناريوهات جرى التدرب عليها مسبقاً، الاحتياط دربوا.،المحامون فحصوا كل هدف وخطة عملياتية، كان للجنود طعام، ماء وتحصين السلطات في الجبهة الداخلية أدت دورها. وسائل الاعلام اطاعت. باختصار، الحكومة والجيش استعدا على نحو ممتاز لحرب لبنان الثالثة ولكنهم نسوا فقط بان الظروف في الجبهة الفلسطينية تختلف عنها في الشمال.
لم يكن الجميع مشاركاً في حالة النشوة، وزير الحرب، ايهود باراك، اراد قطع "رصاص مصهور" بعد يومين ــ ثلاثة أيام، ولكنه تراجع أمام اولمرت الذي اراد المواصلة أكثر فأكثر، حذّر أصحاب الاقلام والمحللون من التورط، والاكثر اثارة للاهتمام: لجنة فينوغراد توقعت مسبقاً الخطر القانوني المحدق ب"اسرائيل"، وفي تقريرها النهائي حذرت من "مضاعفات بعيدة الاثر" للفجوة المتسعة بين قوانين الحرب وواقع القتال ضد الارهاب العامل في محيط مدني.
واقترحت اللجنة اخراج رجال القانون من الغرف العملياتية، الاكثار من التحقيقات في الافعال الشاذة وابرازها، والعمل مع دول صديقة على تعديل قوانين الحرب، وهي توصية سهلة الكتابة ولكنها صعبة التطبيق.
تقرير فينوغراد أشار الى الحاحية المشكلة، ولكنه لم يحذر من الانطلاق الى الحرب التالية قبل أن تتغير قوانين الحرب. التوصيات القانونية، التي صيغت بضبط النفس خشية أن تستخدم في الدعاية ضد "اسرائيل"، ابتلعت في بحر التفاصيل في التقرير.
لدى عودته الى الحكم، أمل نتنياهو في أن يضع الفلسطينيين جانباً، وأن يركز على التهديد الايراني والاصلاحات الاقتصادية. ومثل كل اسلافه كشف أن المشكلة الفلسطينية تعود لتندلع من جديد وفي الاماكن غير المتوقعة، والان سيتعين على حكومته التصدي لآثار "رصاص مصهور" في ظروف دون، تحت ضغط دولي ثقيل والتخوف من أوامر اعتقال ولوائح اتهام.