ارشيف من :أخبار عالمية
الملف سيدخل في مستنقع التأسن
عقيل الشيخ حسين
الفضيحة التي أثارها تأجيل مناقشة تقرير غولدستون أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إلى شهر آذار/ مارس القادم، وخصوصاً موافقة السلطة الفلسطينية على ذلك التأجيل، كانت قد شكلت، بعيداً عما تضمنه التقرير من إدانات صريحة للممارسات الإسرائيلية في حرب غزة، نقلة نوعية على صعيد المواجهة المحتدمة حول الملف الفلسطيني. أي على صعيد المواجهة بين نهجين: نهج المفاوضات من أجل المفاوضات والتعويل المطلق على الأسرة الدولية، من جهة، ونهج المقاومة والتعويل على استنهاض الشعب الفلسطيني وإعادة الحياة إلى مفهوم الصراع بما هو صراع محلي وإقليمي ودولي بين قوى التحرر وقوى الاستكبار، من جهة ثانية.
صحيح ان صدور تقرير غولدستون قد تزامن مع موجة الاحتجاج، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الممارسات الاسرائيلية في مجال تهويد القدس والحفريات حول وتحت المسجد الأقصى وتكثيف العمليات الاستيطانية، لكن قرار تأجيل مناقشة التقرير، وموافقة السلطة على التأجيل، أسبغ على المشهد الفلسطيني شكلاً "انتفاضياً" غاب عن الساحة منذ اللحظة التي برز فيها الخلاف بين حماس والسلطة، بين نهجي المقاومة والمفاوضات.
وفي الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات لتقول بأن السلطة تخدم "إسرائيل" أكثر مما تخدم شعبها، وهو الأمر الذي عكسته تحركات الشارع الفلسطيني واستطلاعات الرأي الأخيرة، وهو الوقت نفسه الذي أجبر فيه الحرج قمم الاعتدال الإقليمي على اتخاذ مواقف: كلامية وعملية، من النوع الذي لا يرضي أميركا... كان لا بد من تدارك الأمر.
وهكذا، ولد مشروع القرار الفلسطيني ـ العربي الذي طلب إلى مجلس حقوق الإنسان إحالة تقرير غولدستون على الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
ومع هذا الطلب، انطلقت معركة جديدة: محاولات قادتها فرنسا لعرقلة التصويت على مشروع القرار، أو لتأجيل التصويت ريثما يتم إخضاعه للمزيد من النقاش، أو بهدف التخفيف من لهجته الحادة في إدانة "إسرائيل". وكل ذلك بدعم معلن وخفي من قبل الإدارة الأميركية، وفي ظل التهويلات الإسرائيلية المعروفة.
لكن المجلس انتهى إلى التصويت على المشروع بغالبية أعضائه ومعارضة ست دول في طليعتها الولايات المتحدة، وتحفظت عليه إحدى عشرة دولة تدور في الفلك الأميركي.
وجاء القرار ليدين، إضافة إلى جرائم الحرب في غزة، عددا من الانتهاكات التي تمارسها سلطات الاحتلال في الضفة الغربية، ابتداءً من إجراءات المراقبة والتمييز على الحواجز والمعابر، وتقطيع أوصال طرق المواصلات ومصادرة الأراضي والاستمرار في بناء أو توسيع المستوطنات، وصولاً إلى إجراءات التهويد والتغيير الديموغرافي خصوصاً في شرقي القدس وأعمال الحفر تحت المسجد الأقصى.
وللحال، انطلقت معركة جديدة تهدف هذه المرة إلى عرقلة وصول القرار إلى مجلس الأمن، ومن ثم إلى محكمة الجنايات الدولية التي يمكنها في حال توافر الأدلة أن تلاحق من تثبت إدانته بجرائم الحرب.
أما الحجج التي يستخدمها معارضو القرار فهي اتهامه بالتحيز ضد "إسرائيل"، وبالافتقار إلى الحيادية والنزاهة، إضافة إلى الموقف الإسرائيلي الأميركي الذي يعتبر أن تقرير غولدستون من أساسه يقوض المفاوضات ويشكل دعماً لما يسمى بالإرهاب. أي أن المطلوب أميركياً وإسرائيلياً هو الخروج بنتيجة تساوي بين الجلاد والضحية، وبالتالي تضرب صفحاً نهائياً عن الارتكابات الإسرائيلية خلال الحرب على غزة.
والملاحظ أن الإسرائيليين قد جندوا كل إمكانياتهم في الهجوم على القرار. اتصالات مكثفة مع المسؤولين الدوليين وقادة البلدان المعنية، في إطار ما اسماه نتنياهو بالمعركة الديبلوماسية الطويلة بهدف إسقاط الشرعية عن التهم الموجهة إلى "إسرائيل". وفي الإطار نفسه، لم يتورع الإسرائيليون عن التهويل على الولايات المتحدة وبلدان الأطلسي وروسيا من خلال الإشارة إلى ما قد يفتحه قرار المجلس من تحقيقات في ممارسات تجري في حروب العراق وأفغانستان والشيشان.
والمعركة طويلة فعلاً. فإذا كان من السهل وصول القرار إلى مجلس الأمن عن طريق الجمعية العمومية للأمم المتحدة، فإن خروجه منه إلى محكمة الجنايات يبدو مستحيلاً أو شبه مستحيل. إذ قبل الفيتو الأميركي الجاهز، بدأت التحفظات والمواقف المعادية بالظهور على مستوى أعضاء المجلس الآخرين. وقد يكون ذلك مؤشراً على نوع من الإجماع على تجنب الإحراج، حيث أن واشنطن نفسها تفضل عدم اللجوء إلى استخدام الفيتو حفاظاً ربما على الشعيرات التي ما زالت تؤهلها في نظر البعض للقيام بدور الوسيط.
وأغلب الظن أن الجهود التي يبذلها كل من الرئيسين البريطاني والفرنسي بهدف إقناع الإسرائيليين والفلسطينيين بإجراء تحقيقات كسبيل وحيد دون وصول الملف إلى مجلس الأمن ستؤول إلى النجاح. ما يعني أن الملف سيدخل في مستنقع التأسن. لا بل قد يفتح الباب على مصراعيه أمام فرص حقيقية لصب الزيت على النيران الفلسطينية الداخلية. إذ منذ الآن، بدأت أصوات فلسطينية بالارتفاع لتطالب السلطة الفلسطينية بالإسراع في تشكيل لجنة تحقيق في الادعاءات التي وردت في التقرير عن انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم إنسانية قامت بها قوة "الأمر الواقع" في قطاع غزة... تحقيق سينتهي حتماً إلى المساواة بين الجلاد والضحية بدليل أن صواريخ انطلقت من غزة باتجاه "إسرائيل"!