ارشيف من :أخبار عالمية

القدرة الاميركية في حالة من التراجع في المنطقة

القدرة الاميركية في حالة من التراجع في المنطقة
القدرة الاميركية في حالة من التراجع في المنطقة


حسان ابراهيم


تشير احدى الدراسات الاسرائيلية الصادرة اخيرا، والتي تنعى المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية قبل ان تبدأ، إلى ان جملة من العوامل تحول دون نجاح الوساطة الاميركية بين الجانبين، برغم امكان الوصول الى نجاحات شكلية، لغرض العلاقات العامة، والتي ستعتبر نجاحا اميركيا، وسيكتفي الاميركيون بها لعدم القدرة على تحقيق انجازات حقيقية وراء الانجازات الشكلية.
ترد هذه الدراسة، السبب الرئيسي لفشل الادارة الاميركية الحالية في وضع الجانبين على طاولة المفاوضات، ان الرئيس الاميركي باراك اوباما يسعى الى معالجة المسائل التي تحول دون تلاقي الجانبين من دون استخدام وتفعيل ضغوط حقيقية على الاسرائيليين والفلسطينيين، اي انه "يسعى الى الضغط بلا اسنان"، ما مكّن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو من التملص واستخدام مجموعة ادوات اتاحت له التملص، من ضمنها التخويف بامكان سقوط الائتلاف الحكومي الذي يجمعه مع جهات يمينية متطرفة غير قادرة على فهم وإدراك معنى التسوية مع الفلسطينيين، اضافة الى استخدامه بحنكة ملحوظة انه غير قادر على انهاء او تجميد الاستيطان اليهودي في الاراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس، الا من خلال قبض ثمن لاي اجراء اسرائيلي في هذا المجال، يسبق المفاوضات، من جانب الدول العربية المعتدلة، ليس اقلها التطبيع مع السعودية وعدد من دول الخليج المعتدلة.. وهذه الادوات، بحسب الدراسة، ما كانت لتصمد لو ان الادارة الاميركية كانت اكثر جدية في مباشرتها وقامت بتفعيل الضغوط الحقيقية والجدية حيال الحكومة الاسرائيلية ورئيسها بينامين نتنياهو.
يمكن ان يضاف الى هذه الاسباب اسباب اخرى ايضا، ولا تقل اهمية عن الاسباب المذكورة في الدراسة. احد هذه الاسباب هو ضعف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وعدم قدرته على ادارة مفاوضات باعتباره ممثلا للشعب الفلسطيني، وبالاخص ان الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج على حد سواء، يعيش حالة من الانقسام الحاد يعصف بالساحة الداخلية الفلسطينية.. ويضاف ايضا الى الاسباب المذكورة في الدراسة حالة من عدم مبالاة من قبل الجانب العربي عموما، لما يحدث في الساحة الفلسطينية، اذ لم يأخذ العرب دورهم في الضغط على الادارة الاميركية لدفعها الى الضغط بدورها، وبشكل جدي على "اسرائيل".. وتبدو الدول العربية، وتحديدا الدول العربية "المعتدلة" احد مشاهدي مسلسل المحاولات الاميركية لجمع الجانبين على طاولة المفاوضات وغير معنيين بتسهيل المهمة الاميركية، فهم غير مبالين بشكل لافت ومريب، ويمكن القول ان هذه الدول قد اصيبت بعمى الالوان واصبحت ترى الاسود ابيض والابيض اسود، ولا تجد عدوا لها سوى الجانب الايراني، دون الاسرائيلي..
من ناحية اخرى، ولاكتمال فهم الرؤية الاسرائيلية للمحاولات الاميركية الفاشلة الى الان، يشير مدير مركز بيغن - السادات للدراسات الاستراتيجية، افرايم انبار، وهو من اهم الباحثين البارزين في الكيان الصهيوني، الى ان "سياسة القوة الناعمة" من قبل اوباما، غير مفيدة لدفع الجانبين، الفلسطيني والاسرائيلي، للتفاوض والوصول الى حل دبلوماسي للصراع، خاصة ان القدرة الاميركية في حالة من التراجع في المنطقة، ما يضعف حضورها وقدرتها على التأثير، سواء القدرة على التأثير على الجانب الاسرائيلي، او على الجانب الفلسطيني ايضا، وبالاخص ان اصل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي يتعلق بصراع عرقي، كما يقول انبار، ولا يمكن بالتالي ان ينتهي بالاقناع الدبلوماسي والوساطة السياسية، اذ ليس لدى اي طرف من الطرفين القدرة على التنازل عن طموحاته وآماله، الا في حال أنهكا تماما، وهذا لم يحصل الى الان.
تعبر الدراستان عن وجهتي النظر الاسرائيليتين القائمتين تاريخيا، الاولى يسارية تشير الى ان الحل المنشود يقوم على مبادئ المقايضة وميزان الربح والخسارة والتنازلات المتبادلة، لكنها تشير الى ضعف الحضور الاميركي غير القادر على "توفير البضاعة" لانه لا يستخدم الضغوط الجدية لتحقيق التسوية او البدء بها.. بينما ترى وجهة النظر الاسرائيلية الثانية، وهي نظرة يمينية عموما، وتلقى رواجا في الحقبة الاخيرة في ظل التراجع الكبير لحضور اليسار في الكيان الاسرائيلي، ان لا قدرة ولا امكانية لاي طرف من الاطراف، مهما كانت الوساطة الاميركية شديدة وجدية وضاغطة، للوصول الى حل للصراع الا بعد ان يستسلم الطرفان ويضعفا، لان الصراع ليس الا صراعا عرقيا وقائما على مبدأ الغاء كل جانب للجانب الاخر.
برغم ان التعارض قائم بين وجهتي النظر الاسرائيليتين، الا انهما محقتان في ان التسوية غير واردة في هذه الفترة الزمنية القريبة، بل وفي الفترات الزمنية المنظورة مستقبلا.. وسواء أكان السبب ضعفا اميركيا كوسيط، او أن ليس للجانبين اي ارادة حقيقية لوقف الصراع ويعملان على استمراره، فان النتيجة واحدة: من غير الممكن تحقيق التسوية.
لكن هل يمكن للاميركيين ان يكونوا اكثر "جدية" كما يريد اليسار الاسرائيلي؟. لا يبدو ان الادارة الاميركية قادرة بالفعل على تفعيل ضغط جدي حيال الاسرائيليين، فهي في ادنى مستوى من القدرات الفعلية، خاصة انها تعاني على اكثر من جبهة نتيجة سياسات الادارة الاميركية السابقة التي تسببت في ضعف الحضور الاميركي، قياسا على موازين القوى الموجودة دوليا، وهذا واقع ممتد لاجال مديدة الى ان تعيد اميركا مكانتها السابقة، قبل السقوط الذي تسبب به جورج بوش للاميركيين حول العالم.
من جهة اخرى، حتى وإن استطاع الاميركيون، على سبيل الافتراض، ان يوفروا ما يمكّن الجانبين من الجلوس الى طاولة المفاوضات، فليس لاي طرف من الطرفين القدرة على ان يقدم ما يتيح انجاح المفاوضات والوصول الى نتائج حقيقية، فعدا عن النجاح الشكلي الذي ستحرزه الادارة الاميركية، لا يستطيع بنيامين نتنياهو ان "يتنازل" حتى عن الامور والمسائل الشكلية في الصراع مع الفلسطينيين، كما ان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، غير قادر بدوره على التنازل، اذ برغم ادعاءاته فلا يمثل بالفعل الفلسطينيين في ظل ميزان القوى في الساحة الفلسطينية والانقسام الداخلي القائم، وبرغم توقع عدد من المحللين ان عباس جاهز للتنازل عما لا يمكن التنازل عنه والوصول الى حدود غير معقولة في حركة التنازل، الا ان ما سيقدم عليه لن تكون لديه شرعية، ولن ينهي الصراع القائم.
على ذلك، يصدق عدد من المراقبين الذين يرون في زيارات المبعوث الاميركي للشرق الاوسط، جورج ميتشل، مجرد زيارات لرفع العتب ومحاولة الدخول الى مناطق محرمة ومليئة بالالغام التي لا يمكن نزعها، خاصة انه يسعى الى "الاقناع" ولا يستخدم اياً من الضغوط الجدية... وستبقى المنطقة في اخذ رد، وزيارة وسيط اميركي تليها زيارة اخرى، الى ان ييأس الرئيس الاميركي باراك اوباما، ويرضى او يكتفي بنتائج شكلية، لن تصل الى اي من الحقوق الفلسطينية، برغم تقليصها الى حدود غير معقولة من قبل السلطة الفلسطينية الحالية.

2009-10-22