ارشيف من :ترجمات ودراسات
الرؤية الجديدة للدرع الصاروخية الأميركية.. تعديل في التكتيك لا الاستراتيجيا
علي شهاب
أغفلت الكثير من التقارير الإعلامية، التي تناولت قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بإلغاء خطط الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولندا، طيّات خطاب الأخير في السابع عشر من أيلول، حين أعلن أن "هيكلية الدفاع الصاروخي الجديد ستكون أكثر استيعابا لحاجات أوروبا وأكثر دعما من قبل حلف الناتو"، في حين تكفلّ وزير الدفاع روبرت غيتس بتسويق الرؤية الجديدة بالإشارة إلى أن خطة الرئيس السابق جورج بوش "لم تعد تلائم التهديد الإيراني، ذلك أن المجتمع الاستخباري الأميركي يقدّر أن تهديد الصواريخ الإيرانية الباليستية يتطور أسرع مما كان متوقعا، ما يهدد حلفاءنا وقواتنا في أوروبا".
إيران، إذاً هي السبب المعلن والصريح لهذا التغيير التكتيكي في الاستراتيجية الدفاعية الصاروخية الاميركية في أوروبا. غير أن التدقيق في تفاصيل هذا التعديل يدل بشكل صريح على هدف آخر يرتبط بإعادة تموضع الولايات المتحدة في نظام عالمي جديد محكوم بالتعاون بين القوى الكبرى. وفي حالة الدرع الصاروخية طرفا هذا التعاون هما الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي "الناتو". وبالتالي فإن المستهدف من التعديلات التكتيكية في الاستراتيجية الدفاعية الصاروخية لا يزال، الى إيران، كلٌ من روسيا والصين بالدرجة الأولى.
تقوم الرؤية الجديدة على نشر منظومات اعتراضية على متن سفن تابعة للأسطول الأميركي في البحر المتوسط وأعالي المحيطات على أن ترتكز هذه المنظومات الى مجسات استشعار (رادارات) أكثر مرونة (بخلاف نظرية الرادار الثابت كالذي كان مقررا نصبه في جمهورية تشيكيا).
هذا الإجراء يتيح امكانية أكبر في اعتراض الصواريخ الباليستية المتوسطة المدى، علما ان التقديرات الأميركية الأخيرة أشارت الى ان إيران لا تزال بعيدة عن الوصول الى صناعة صواريخ باليستية بعيدة المدى، وهو سبب رئيسي، أضف الى الكلفة المادية العالية، في التغيير الطارئ على الدرع الصاروخية.
بأي حال، لن تكون عملية التحول الى الخطة الجديدة سريعة التنفيذ، فالمشروع المعدّل سيمر بثلاث مراحل تنتهي اولاها بحلول العام 2011 حين تنتهي البحرية الأميركية من نشر مدمراتها، المزودة بنظام "أس أم 3" شرقي المتوسط، على أن يُنجز سلاح البر تنصيب أنظمة اعتراضية في دول حليفة بحلول العام 2015، وهنا لا بد من الإشارة الى ان بولندا وتشيكيا لا تزالان ضمن قائمة الدول التي يجري التفاوض معها لتكون جزءا من مظلة الدول التي ستستضيف منشآت أميركية جديدة، على ان يكتمل المشروع بحلول العام 2018 من خلال تعزيز شبكة الصواريخ والرادارات القادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية.
يهدف البنتاغون، من خلال الخطة الجديدة، الى توفير 250 منظومة اعتراضية طراز "اس ام 3"، فضلا عن رفع عدد المدمرات المجهزة بهذا النوع من المنظومات من 21 الى 27.
إذا لا يعدو الامر سوى تعديل تقني أكثر مرونة وتلبية للقدرات الدفاعية الصاروخية الأميركية والحليفة؛ تعديلٌ استطاع باراك أوباما استثماره إعلاميا ليظهر بموقع المتراجع خطوة الى الخلف والمتصالح مع روسيا، في سياق الحملة التي بدأها منذ توليه منصبه وتركيزه على تقديم صورة مغايرة لإدارة سلفه.
تجدر الإشارة الى أن أوباما، بإعلانه التعديلات على الدرع الصاروخية، يتبع بدقة نهج البنتاغون في المحيط الهادئ، حيث تقوم البحرية الأميركية بتعزيز قدراتها بالاعتماد على منصات اعتراض متحركة على متن اسطولها.
بالموازاة، لم تشر تصريحات المسؤولين الأميركيين الى مصير بطاريات الباتريوت "باك -3" التي كان مقررا نشرها في بولندا، في خطوة فسرها خبراء روس بأنها مؤشر على نية واشنطن ادراج هذه البطاريات ضمن درع يتبناه حلف شمال الأطلسي "الناتو" في القارة الأوروبية. ففي اليوم نفسه الذي تحدث فيه أوباما وغيتس عن التعديلات في الدرع الصاروخية، كان أمين عام الناتو راسموسن يعرب عن اعتقاده بأن "الخطط الأميركية حول الدفاعات الصاروخية ستورط الناتو بدرجة عالية"، مع تشديده على دور دول أوروبا الشرقية في الحفاظ على "أمن القارة".
بكلمات اخرى، يبني كل من الاتحاد الأوروبي وواشنطن مظلة دفاعية صاروخية مشتركة باسم "ميادس" (Medium Extended Air Defense System) تهدف الى تطوير وتعزيز بطاريات الباتريوت وأنظمة "هيركوليس" في أوروبا تحت إشراف الناتو، علما ان ميزة هذا النظام تكمن في مرونة وسرعة تنصيبه في اي مسرح عمليات عسكرية، فضلا عن امكانية عمله مع أنظمة دفاعية أخرى، بما فيها نظام اعتراض الصواريخ على ارتفاعات شاهقة المعروف بـ"تاد" (وهو بالتأكيد لا يستهدف القدرات الصاروخية الإيرانية، بل الصواريخ الاستراتيجية الروسية والصينية) ونظام الدفاع الصاروخي الذي تشغله البحرية الأميركية في الباسيفيك حاليا.
ويضم النظام المشترك "ميادس"، الى منظومات الدفاع الجوي المتوسطة، رادار بحزمة "اكس" (الذي كانت واشنطن تنوي تنصيبه في تشيكيا، وقامت بتنصيب اثنين منه في اسرائيل واليابان)، ورادار استطلاع بقدرة 360 درجة، وقاذفات صواريخ، والجيل الجديد من صواريخ باتريوت الاعتراضية، مع الإشارة الى أن البنتاغون طلب ضمن ميزانية العام الحالي مبلغ 600 مليون دولار لتلبية تكاليف هذا النظام، ويتجه الكونغرس الى الموافقة على صرف المبلغ المطلوب.
في الخلاصة، لعبت الأزمة الاقتصادية وحاجة واشنطن الآنية لموسكو وبكين في ملفات عديدة دورها في تعديل خطة الدرع الصاروخية، من دون أن تعني تراجعا عن الأهداف الاستراتيجية. في هذا السياق، يبرز رأي رئيس اكاديمية الشؤون الجيوسياسية الروسية الجنرال ليونيد ايفاشوف الذي وصف الخطوة الأميركية الأخيرة بأنها "مناورة سياسية" مشيرا الى أنه لا يلاحظ " في الوقت الحاضر أي تقدم بالنسبة لتخلي الأميركيين عن أفكارهم الهادفة إلى تغطية كل الأراضي الروسية بمظلة مضادة للصواريخ"، في حين كان ممثل روسيا الدائم لدى الناتو دمتري روغوزين يعلن ان "الولايات المتحدة تظهر من خلال نصبها لعناصر جديدة من انضمة الدفاع الصاروخية على متن السفن بأنها لن تتخلى عن هيمنتها في جميع انحاء العالم"، مضيفا أنه "إذا كانت هذه السفن ستبحر في البحر الأبيض المتوسط وبالقرب من سواحل كوريا الشمالية فهذا يعني على ارض الواقع برنامجا لتطوير منظومة الدفاع الصاروخي الأميركي وخططا للوجود العسكري الأميركي الدائم في كل نقطة من العالم".
لا تخرج التعديلات في خطة الدرع الصاروخية إذاً عن حدود سياسة الاحتواء التي ينتهجها الرئيس أوباما، ولئن كان بعض المحللين يربطون بين هذا القرار والرغبة الأميركية في إزالة حجر الشطرنج الروسي من على الطاولة قبل التفرد بإيران، فإن التدقيق بالتعديلات التقنية والتكتيكية للدرع الصاروخية يفضي الى أن حيثيات أخرى تقف وراء الخطوة الأميركية المفاجئة للوهلة الأولى، والمنطقية في السياق الاستراتيجي.
الانتقاد/ العدد 1370 ـ 30 تشرين الاول/ اكتوبر 2009