ارشيف من :أخبار لبنانية

أزمة الخروج عن الطائف

أزمة الخروج عن الطائف


صحيفة السفير
سليمان تقي الدين

يقول تحالف فريق الأكثرية النيابية إن مطالب الأقلية للمشاركة في الحكومة تستهدف تعديل النظام عن طريق فرض قواعد جديدة. لكننا بالضبط لم نتفق على قواعد هذا النظام ونخضع لها في الممارسة العملية. هذا التناقض يعود بالدرجة الأولى إلى المعايير المزدوجة بين نصوص الدستور والمؤسسات السياسية الطائفية. جاء اتفاق الطائف ليفترض أنه سيحل هذا التناقض عن طريق الانسجام بين الأمرين. جواب الطائف عزز صلاحيات المؤسسات الجماعية على حساب السلطات الفردية. ما أعطاه من سلطات للحكومة وللوزير فيها يعكس هذا الهدف ويؤكد على الطابع البرلماني للنظام. النظام البرلماني هو الوسيلة الوحيدة للحد من شخصانية السلطة وصورتها الطائفية.
مشاركة الطوائف تتم في الحكومة وليس من خلال رئاسة المؤسسات. يأخذ الطائف في الاعتبار ثماني عشرة طائفة وليس الطوائف الثلاث الكبرى فقط. في الممارسة أنتج الطائف ظاهرة «الترويكا» أو سلطة الرؤساء الثلاثة والطوائف الثلاث. من هنا بدأ الانقلاب على الطائف. تعطيل السلطة الجماعية لمجلس الوزراء واستبدالها بالتوافق الرئاسي. نشأت عن هذا الانحراف أعراف خطيرة على طبيعة النظام. أعيد إقحام رئاسة الجمهورية في السلطة التنفيذية وهذا مخالف للدستور. إقحام رئاسة المجلس النيابي في قرارات السلطة التنفيذية وهذا مناقض لمبدأ فصل السلطات. محورة مجلس الوزراء حول رئيس الحكومة من دون تنظيم قانوني لقواعد عمل الحكومة.
أعطي للرؤساء وطوائفهم حصصاً في السلطات وملفات من مهام الدولة. تكرّس الطابع التقسيمي للنظام بدلاً من السير في إجراءات توحيد الدولة. نشأ نظام إقطاع طائفي وظيفي، للأمن والاقتصاد ولجميع المرافق. جرى استكمال هذه الخارطة بإعطاء الطوائف من الدرجة الثانية مؤسسات أيضاً ومجالس وصناديق وبعضها شكلاً من أشكال الإدارة المحلية والأمن الذاتي.
تطورت اللامركزية السياسية وغابت نهائياً عن البحث اللامركزية الإدارية. جاءت قوانين الانتخاب تجسيداً وتتويجاً لهذا المسار. ما حصل كان تواطؤاً من جميع أطراف الطبقة السياسية التي استولت على مقادير البلاد تحت سلطة الوصاية المزدوجة السورية السعودية. الخديعة الرائجة حتى الآن أن الطائف أفقد النظام السياسي مرجعيته الوطنية من داخل المؤسسات وأنه يحتاج إلى مرجعيته من خارجه وأنه صيغ بهذه الروح. هذه هي الكذبة التي تتستر بها الطبقة السياسية لتعطيل تطبيق الطائف بما وضعه من قواعد وبما اقترحه من مؤسسات.
تجري المبالغة عمداً في الحديث عن فقدان الرئاسة الأولى لصلاحياتها من أجل شرعنة منطق التقاسم الطائفي للسلطة وتجويف الآليات الديموقراطية المرتكزة إلى مرجعية القانون. حين يتحول مجلس الوزراء إلى مؤسسة وتتأمن فيه ومن خلاله مشاركة جميع الطوائف لا حاجة لصلاحيات رئاسة ولا إلى شراكتها في السلطة التنفيذية وهي سلطة غير مسؤولة أصلاً.
وما يجري اليوم من مناورات في تأليف الحكومة يستهدف وضع الرئاسة الأولى في وجه الممثل النيابي لفريقها الطائفي. لكن المأزق الحكومي لم يأتِ من الطائف، ومن التناقض بين الديموقراطية الأكثرية والديموقراطية التوافقية، بل من قوانين الانتخاب وممارسة السلطة خلال عشرين سنة من الطائف. أوقعت الطبقة السياسية نفسها في هذا المأزق بتوافقها على حصر التمثيل السياسي بالمؤسسات الحزبية الطائفية الغالبة داخل جماعاتها. أجاب الطائف على هذه المشكلة من خلال ثنائية المؤسسة التمثيلية (البرلمان مجلس الشيوخ) ومن خلال اشتراط قانون انتخاب يرتكز إلى الدوائر المتوسطة التي تؤمن العيش المشترك وفاعلية وصحة التمثيل لشتى فئات الشعب وأجياله، بعد إعادة النظر بالتقسيم الإداري.
الأزمة اليوم ليست لرغبة هذا الفريق أو ذاك بتعديل الطائف من خلال توازنات القوى الواقعية، بل اللعب على مسرح السلطة التي نشأت زوراً عن الطائف وعطّلت أحكام الدستور. ولا يمكن اليوم إنتاج سلطة تؤمّن الاستقرار السياسي وفاعلية الحكم وإدارة المؤسسات وحل الخلافات السياسية عن طريق الاحتكام إلى أكثرية نيابية موسومة بتحالف طائفي مقابل أقلية نيابية موسومة بتحالف طائفي آخر.
هذه الأكثرية النيابية لا شرعية وطنية شاملة لتمثيلها ولا قدرة واقعية عندها لممارسة السلطة بمعزل عن الطرف الآخر. ولا يمكن تغليف مكوّناتها بالصفة السياسية العامة، وهي أصلاً قد فشلت في مشروعها السياسي لتكون كتلة وطنية جامعة. لن ينقذها من هذه الورطة زعمها الدفاع عن استقلال لبنان وصد هيمنة مشروع إقليمي متعارض مع مشروعها وارتباطاتها الإقليمية أيضاً. وفي مطلق الأحوال لم تكن أكثرية راجحة، ولم تعد موحدة في نظرتها للسلطة وللخيارات السياسية، بعد تمايز فريق منها.
لم تستوعب هذه «الأكثرية» بعد العوائق الكبرى أمامها وما تزال تسعى لإيجاد مخارج مستحيلة من دون تغييرات مهمة في الداخل والخارج. فهي إذ تؤجل الإقرار بالأمر الواقع، بأزمة نظامها وتهافت منطقها، تنتظر تحولات ربما، والأرجح أنها لن تأتي في مصلحتها. هكذا يجري استنزاف لبنان من أجل رهانات صارت محدودة ومجرّبة. مهما كانت نتائج التطورات الإقليمية فإن سلطة لبنانية تجسّد غلبة طائفية لن تنجح ولن تستقر. والأفق الوحيد المفتوح أمام اللبنانيين أن يتقدموا باتجاه تطبيق دستورهم لا التحايل عليه.

2009-11-03