ارشيف من :أخبار عالمية
عندما تصبح الدول مؤسسات لانتهاب المال العام...
عقيل الشيخ حسين
ليس الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، أول مسؤول فرنسي يحتل المنصب الأول في الدولة ويتعرض لخطر المثول أمام العدالة. فقد سبقه إلى ذلك الملك لويس السادس عشر الذي حاكمته وأعدمته الثورة الفرنسية عام 1793، ليتبعه الجنرال بيتان الذي حكم عليه بالموت، عام 1945، بعد إدانته بجرم الخيانة العظمى لمصلحة المحتل الألماني.
ولكن شيراك هو أول رئيس فرنسي يتعرض للملاحقة القضائية بتهمة الفساد المالي. وظائف وهمية منحها لمقربين يوم كان رئيساً لبلدية باريس، بين العام 1977 والعام 1995، تاريخ انتخابه لولايته الأولى رئيساً للجمهورية الفرنسية. وبالإضافة إلى هذه التهمة، نشرت بعض الصحف الفرنسية لائحة طويلة بأسماء ملفات تفوح برائحة الفساد ويعتقد أن شيراك ضالع فيها.
هذا بالنسبة للمنصب الرئاسي. أما بالنسبة للمناصب الأدنى، بدءاً برئاسة الحكومة والوزراء، فأسماء المسؤولين المتورطين في قضايا فساد تكاد تشمل الجميع. من اليمين واليسار على حد المساواة. ومن هؤلاء المسؤولين الكبار من أقدم على الانتحار بعد الكشف عن تورطه في عمليات فساد.
المهم أن شيراك البلغ من العمر 76 عاماً مرشح للسجن لمدة عشر سنوات ولدفع غرامة تصل إلى 210 آلاف يورو. مع التذكير بأن جاك شيراك، الرئيس السابق لدولة الحرية والمساواة والأخوة، كان عالي الصوت في الدفاع عن حقوق الإنسان والديموقراطية والشفافية في العالم، وما إلى ذلك من شعارات مفضوحة.
فضائح الكونغرس
وبالتزامن مع الفضيحة الشيراكية، كشفت الواشنطن بوست عن فضيحة كان مسرحها الكونغرس الأميركي. سبعة من النواب الاعضاء في لجنة الاعتمادات المالية التابعة لمجلس النواب (أي نصف أعضاء اللجنة) تم رشوهم من قبل شركات خاصة مقابل الحصول على عقود مع وزارة الحرب الأميركية. ويستفاد من هذا الكشف أن بعض شركات التصنيع الحربي قد حصلت على مليارات الدولارات مقابل مشاريع وهمية أو غير ضرورية. كما أن تحقيقات تجري مع نواب آخرين متهمين بالتجسس على الكونغرس لمصلحة "إسرائيل"، من خلال علاقات مع لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية (إيباك). وهذا بالطبع، غيض من فيض.
ولا تقتصر ظاهرة الفساد على كبار المسؤولين الأميركيين والفرنسيين. فرئيس الوزراء الإيطالي، سيلفيو برلسكوني، مرشح اليوم للملاحقة القضائية للمرة الثانية. ورئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، يقوم حالياً بجمع ثروات طائلة تحت مسميات مختلفة لقاء خدمات قدمها إبان فترة حكمه. أما خلفه غوردون براون، فقد كشف عن تورطه في صرف مبالغ من المال، من ميزانية الدولة، على شؤون منزلية. ولا مجال هنا لتعداد كل عمليات الفساد التي تورط فيها مسؤولون كبار وتم الكشف عنها في بلدان الغرب.
أما في بلداننا، وخصوصاً في تلك التي تربطها علاقات مميزة بالغرب، فالقاعدة هي تعامل الحكام مع المال العام على أساس أنه مالهم الخاص. يصرفونه على أهوائهم، ويوزعونه على أقاربهم ومحاسيبهم، ويعقدون به أبشع الصفقات، ويظهرون من خلاله كرمهم المتوارث لا سيما عندما يكون عليهم أن ينقذوا اقتصاد الحضارة من الإفلاس.
ولعل أخطر ما في الظاهرة هو أنها اكتسبت شرعية فعلية من الناحية العملية. فهنالك مسؤولون يعترفون بأنهم يسرقون المال العام ويعتبرون أنفسهم خدماً للفضيلة لأن غيرهم يسرق أكثر منهم. وهنالك من يشعر بالتقصير أو الغبن لأنه لا يحوز الشطارة اللازمة للإبداع في مجال الفساد. وهنالك بالطبع "المواطن" العادي الذي يقبل لنفسه أن يكون ضحية للفساد، لأنه لا يملك وسيلة أخرى لإمضاء معاملة من المعاملات...
ولعل أهم ما يميز ظاهرة استشراء الفساد في أيامنا هو أنها تستشري وسط سيول الادعاءات: دولة الحق والقانون، الشفافية، المؤسسات... ما يعني أن إدارة الشأن العام في الدول الحديثة قد أصبحت غشاءً رقيقاً لتغطية البطش بالمال العام. ولا غرابة في ذلك في زمن أصبح فيه المال هو المحرك الأول والغاية التي لا غاية بعدها. وخصوصاً أن السلطة والحكم باتا، في معظم البلدان، حقاً متعارفاً لأصحاب المال، ولا سيما أن أصحاب المال لا ينظرون إلى السلطة والحكم إلا كوسائل لتنمية ثرواتهم.
ولعل أهم ما تعبر عنه الظاهرة هو الاهتراء المتصاعد للدول أمام الصعود الصاروخي لنفوذ الشركات ورجال وسيدات الأعمال. فبدلاً من أن تكون الدولة خادمة لجميع أبنائها، أصبحت مطية لشر أبنائها، يمتطونها حتى إنهاكها بالكامل.
نوع من بناء متصدع يوشك على السقوط والناس من حوله يتسابقون على الدخول بهدف الاستيلاء على ما خف وغلا من محتوياته، ومن ثم تركه لمصيره في الانهيار على رؤوس سائر "المواطنين" المغلوبين. تلكم هي الدولة الحديثة التي شاءت لنفسها أن تضطلع بمهمة رب الأرباب، لتنكشف عن وثن لا يتورع عابدوه عن التهامه في أول فرصة. وذلكم هو أكبر المؤشرات على أن الحضارة التي أنتجت مثل هذه الدول قد وصلت إلى أعلى مراحل إفلاسها.