ارشيف من :أخبار عالمية

حوار هادئ في قضية ساخنة

حوار هادئ في قضية ساخنة
لماذا استعداء بعض العرب لإيران؟!!


لؤي حسن (*)
لعل في استعداء بعض العرب لإيران ما يطرح أكثر من علامة تعجب واستفهام لا سيما بعدما بات موقفهم منها يأخذ أشكالاً من الهوس أو العصاب حد اعتبارها (خطراً) على الأمة العربية!!. بل منهم من يذهب إلى توسل (التحالف) مع إسرائيل لمواجهة هذا الخطر!!!. انطلاقاً مما سبق لم تعد واشنطن تجد حرجاً في إظهار المستوى المتقدم لتحالفها مع تل أبيب وبطريقة غير مسبوقة بلغت ما شهدناه من مناورات عسكرية مشتركة على نطاق واسع. وهذا يعود لوجود أطراف عربية ملتحقة من (تحت الطاولة) في هذا الحلف. الأمر الذي يؤكده ما تسرب من أنباء عن حضور ضباط من دول عربية لتلك المناورات!!!.

وإذا ما غيّبنا – موقّتاً – اعتباراتنا العقائدية أو الفكرية وتجاوزنا كل مشاعر الاشمئزاز حيال ما سبق، لنناقشه بعقل بارد ومن زاوية استراتيجية بحتة، سنجد أمامنا في البداية سؤالاً مُلحاً عن مصلحة هذا البعض من العرب في الالتحاق بالمشروع الأمريكي – الإسرائيلي !!! .. هكذا وبكل بساطة!!.

لا شك أبداً في ان واشنطن تقف وراء هذا الاستعداء لإيران وتصويرها بأنها الخطر الذي يهدد الخليج والمنطقة ككل. وهنا من المفيد العودة إلى سوابق لها مشابهة. منها المعلومات التي وضعتها القيادة العسكرية الأمريكية أمام المملكة العربية السعودية إثر اجتياح صدام للكويت، والتي تحدثت عن حشود عراقية على حدودها بغاية اجتياح المنطقة الشرقية من المملكة. تلك المعلومات التي تحفظ حيالها ولي العهد الامير عبدالله آنذاك ـ الملك الحالي ـ ثبت بأنها مزورة، وغايتها تبرير وجود عسكري أمريكي فوق أرض الخليج، والجزيرة العربية عامة". والكذبة الأخرى كانت في امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل" لتبرير اجتياحه انطلاقاً من الخليج. والنتيجة تفكيك هذا البلد بكل ما يحمله هذا من تداعيات مباشرة على الجوار خاصة.

وهكذا فإن ربط عربتنا بالقطار الأمريكي سيقودنا إلى محطات انتحارية كما تظهر التجارب. أما الأمريكيون فهم يعرفون جيداً وجهتهم كما حدد حلفاؤهم الإسرائيليون أهدافهم في المنطقة. ومن بين تقاطعاتهم العديدة تصور مشترك لمستقبل الشرق الأوسط. وفي هذا المجال كانت إسرائيل بمثابة المولدة للأفكار التي استلهمتها أمريكا في ما بعد حيث كانت تلك قد حددت رؤيتها منذ وقت سابق، وجاءت في تقرير بقلم "عوديد يينون" أوردته مجلة "كيفونيم" – (اتجاهات) – (عدد 14 شباط ، 1982) . أما خلاصته:

إن "قوس الأزمات" الذي توجد فيه إسرائيل والممتد من المغرب إلى باكستان يحمل ثقافة معادية لإسرائيل. كما يتكون من جهته من "مجموعات عرقية ودينية وطائفية متنافرة". وهو ما يجب استثماره لكي تكون "إسرائيل في وضع استراتيجي وأمني أفضل". ولذلك لا بد من "العمل على فك وتركيب" هذا القوس استناداً إلى "حق تقرير المصير" لهذه المجموعات. وبهذا تستطيع إسرائيل أن "تنتدب نفسها لإدارة الأحداث في المنطقة" كلما أمكنها. بينما تسعى الولايات المتحدة إلى تكريس نفسها قوة حامية لهذه الكيانات "الوطنية".

وها هي تلك الرؤية الإسرائيلية. يحملها القطار الأمريكي أو هي تدفعه سيان. ونرى أحد اسقاطاتها في شمال العراق – "كردستان"! – حيث تحولت إلى قاعدة للموساد الإسرائيلي. ومنها ينطلق إلى أماكن عدة في العراق زارعاً الموت وآخرها التفجيرات الدامية في بغداد.

إنه التفتيت في كل الاتجاهات وبأشكال مختلفة حيثما أمكن. من السودان والصومال إلى اليمن وفلسطين.. والآتي أعظم!.

ألم يتسرب من واشنطن اثر اجتياحها للعراق وقد أسكرها "النصر!" آنذاك أن المملكة العربية السعودية لن تظل على حالها ومصيرها التقسيم إلى خمسة كيانات كما تردد!!. وشيء من هذا القبيل لمصر أيضاً. ولعل ما سحب هذا من التداول الآن أنه لا يتماشى مع ضرورات تكتيل الأطراف العربية لمواجهة إيران!!. يجب ان لا ننسى ذلك. كما ويجب أن نتذكر بأن الرؤية التفتيتية في ما يسمى "الشرق الأوسط الجديد" ثابت استراتيجي في السياسة الأمريكية لا يتغير بتغير الرؤساء. وإذا جاز التغير فبالأسلوب الذي يحققه. كما نشهد الآن من تراجع لفكرة التدخل العسكري المباشر بعد اتضاح تكاليفها الباهظة إلى ما يسمونه "الوسائل الذكية". كإثارة الفوضى في الداخل.. أو الترهيب أحياناً، والترغيب أحياناً أخرى، مقرونة بمعسول الكلام كالذي سمعناه مثلاً في خطاب أوباما في مصر.

لماذا إيران ؟
تتقاطع أمريكا وإسرائيل – فيما يتقاطعان – على اعتبار إيران العدو الرئيس لهما. وذلك لثلاثة اعتبارات:

الأول – إن إيران بما تملك من ثقل وتأثير تشكل صخرة كبيرة في وجه مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يطالها بالتأكيد في من يطال.

الثانية – إن اعتماد إيران الإسلامية سياسة معادية للصهيونية وكيانها إسرائيل أدى إلى تصحيح الخلل في ميزان القوى إثر إنسحاب مصر من ساحة الصراع. هذا في المبدأ. وكان من نتائجه استنهاض مقاومات جادة ومؤثرة في لبنان وفلسطين. وإلى تعزيز قلعة الممانعة السورية. ليشكل هذا الثلاثي رقماً صعباً في الشرق الأوسط تأكد وزنه بالانتصارات النوعية في الجنوب صيف 2006 والصمود الأسطوري في غزة 2008.

الثالثة ـ تشكل إيران خط المواجهة الاستراتيجية في وجه الاطماع الأمريكية التي تستهدف وسط آسيا. حيث الثروة النفطية الوافرة، والغاز، والذهب. ومعادن أخرى. وقد جاء غزو أفغانستان في إطار هذا المخطط لتصبح نقطة ارتكاز. يقابلها العراق لاحقاً على المقلب الآخر. وبهذا تصبح إيران بين فكي "كسارة البندق" على حد اعتقادهم.

لكن المفاجأة كانت في أن إيران أصبحت العقدة التي توقف عندها المنشار الأمريكي!!. بل هي في نظر أمريكا وراء فشلها في افغانستان، وشريك – مع سوريا – في خيباتها في العراق. ولذا فكلما ترنح المخطط الأمريكي ازدادت الهجمة على إيران تارة بفتح الملف النووي، وتارة بتهمة دعم "المنظمات الإرهابية".

استطراداً، فإن حجم الخيبة الأمريكية في هذين المكانين – (أفغانستان والعراق) – قد رسم ملامح الفشل في السيطرة على وسط آسيا، وهذا هو الجوهر لتحقيق هدفين استراتيجيين ثمينين:

تطويق روسيا بقوس بدأ فعلاً من واجهتها الأوروبية لينتهي عند بطنها الآسيوي.
السيطرة على معظم مصادر الطاقة واحتياطيها العالمي – الخليج وبحر قزوين – وهذا يؤدي فيما يؤدي الى السيطرة على اقتصاديات العالم بالأخص الصيني منها.

وانطلاقاً من هذه "البانوراما" يرى المحللون الاستراتيجيون أن إيران هي رأس الحربة في مواجهة استراتيجية لها عمق روسي وصيني.

ضحايا

" فوق أرض آسيا القارة – الميدان التي تحسم على أرضها غالباً معارك الانتقال التاريخية " يقف المتصارعون في ساحة الميدان عارف كل منهم هدفه ووجهته. أما ذاك البعض من العرب فإنهم مستلبون مستدرجون الى ساحة ليست ساحتهم وليسوا هم فيها اللاعبين الاساسيين. هذا ما لم يصبحوا في ما بعد من ضحاياها على مستوى كياناتهم، وبالتواتر على مستوى أنظمتهم.

إذ لو فرضنا (على سبيل النقاش) أن إيران قد خسرت المواجهة فإن ذلك بلا أدنى شك سيطرح معادلة جديدة. تسمح للمخطط الأميركي – الإسرائيلي التفتيتي بالمرور، وعندها سيعاد تظهير المشاريع المركونة في الادراج تقسيماً لكيانات عربية كالسعودية ومصر كما سبق وذكرنا.

وبالرغم مما تستدعيه المواجهة الأمريكية مع إيران من اعتبارت لا تسمح في استثارة المشاعر نجد أمريكا تغض النظر عن استهداف اسرائيل لواحدٍ من أكثر المواقع قدسية. المسجد الأقصى بكل ما في ذلك من تحدٍ واستخفاف بمشاعر المسلمين. وبكل ما في ذلك من (إحراج) لتلك الأنظمة العربية!!!. فكيف وهو مهدد الآن بالانهيار جراء الحفريات التي يقوم بها الإسرائيليون، بل ماذا لو وقعت الكارثة وانهار الأقصى لا قدّر الله!!!.

وبالرغم من هذا وذاك وغيرهما هنالك من يعتقدون بأن تحمل "الظل الثقيل لأمريكا" ومجاراتها سيقلص مستقبلاً من اعتمادها على اسرائيل لمصلحة العرب أو يخفف من شرورها!!.

لكن – وللتذكير – أليس هذا بالضبط ما كان يعتقده الرئيس السادات. فقد أعطى واشنطن كل ما أرادته (سلام) مع إسرائيل، وعلاقات دبلوماسية، وتعاون عسكري، وتنسيق أمني معها، بل ومع إسرائيل. والمخفي أعظم. فماذا جنت مصر مقابله إلا المزيد من التراجع في دورها التاريخي. من مركز للقرار إلى ساعي بريد ينقل الرسائل الأمريكية، أو وسيط بين حماس وفتح بينما "خيوط اللعبة" ليست في يديها!. وبعد ذلك تجدُّ الأصابع الإسرائيلية والأمريكية في محاصرتها من منابع النيل (أثيوبيا وجنوب السودان) إلى دارفور فباب المندب، فالصومال، مع تركها لأزماتها الاقتصادية تراكم المزيد من الفقراء.
بينما تزداد مكانة إسرائيل ودورها وشراكتها مع واشنطن بوصفها (استثمارا استراتيجيا) ناجحا باللغة السياسية الأميركية استطاعت منه أن تروض العديد من العرب وتأخذهم إلى حيث تريد!!.
ليس من الواقعية الآن ان نطلب من بعض هؤلاء العرب استعداء الولايات المتحدة، لكن ليس مجافياً للواقعية أو المنطق أن يتركوا بينهم وبينها هامشاً للحركة على الأقل.
كما وإنه ليس من الواقعية أو المنطق أبداً استعداء إيران، ففي هذا تجاهل لأبسط قواعد الاستراتيجيا التي تنبني على المصالح وعلى الجغرافيا ، والتاريخ.
أما المصالح فمن بينها أن المنحى التفتيتي غير وارد في العقل السياسي الإيراني ولا العقائدي، بحكم الحرص على الأقل. إذ تضم إيران في كيانها الوطني عدة مجموعات اثنية. وبالتالي فإن أي مشروع تفتيتي في الجوار يلحق بها أذى بفعل (الدومينو) ومثل ذلك تركيا. وهذه إحدى المساحات المشتركة التي تجمعنا مع هاتين الدولتين.

كما أن إيران ـ ومثلها تركيا ـ جزء لا يتجزأ من نسيج المنطقة. ومن لا يجهل التاريخ يدرك تمام الإدراك ما هو أبعد من هذا بكثير. وهو أن إيران جزء مكون للحضارة الإسلامية والعربية. فبعد الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذي كان أول صفحاتها المجلية في الإسلام، خرج منها جمهور واسع من نخبة العلماء في كل الميادين قاطبة: الدين والفلسفة والطب.. وكافة العلوم بما فيها علم النحو وقواعد اللغة العربية.. جمهور واسع نعتبرهم جزءا من تراثنا الإسلامي بل والعربي. من حيث انهم قد كتبوا نتاجهم الفكري باللغة العربية، وحاضروا وعلموا تلامذتهم بها... إنه حديث يطول ويطول يحتاج إلى صفحات أخرى.

لكن بعد هذا العرض، لم يعد كافياً القول ان استعداء إيران خطأ كبير. وإنما الخطأ القاتل أن لا نتقاطع معها. فإيران الإسلامية القوية فرصة لبناء منظومة إقليمية تحفظ شرقنا ومستقبل أجيالنا من هذا التحالف الأمريكي ـ الصهيوني، أو تفكيكه على الأقل، إذ يجب أن لا ننسى بأننا في عالم لا يحترم إلا الأقوياء.
أختم بقول للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.
"ان الذي يعيش خارج التاريخ هو من يتصور ان بمقدوره أن يفرض على اليوم ما لا علاقة له بالأمس".
(*) كاتب من لبنان

2009-11-16