ارشيف من :أخبار عالمية

قمة "الجوع": رعاية للمشكلات لا بحث عن حلول

قمة "الجوع": رعاية للمشكلات لا بحث عن حلول
قمة الفاو: فشل في مكافحة الجوع أم نجاح في التجويع؟

عقيل الشيخ حسين
من أين كان يمكن، لولا الجوع الذي يجتاح عالم اليوم، لفنادق روما ومطاعمها الفخمة، ولشركات الطيران، وللشركات المتخصصة بمستلزمات السفر، وغيرها وغيرها، أن تؤمن كل هذه الحشود من الزبائن الدسمين؟ ملوك ورؤساء ووزراء ومديرو مصارف ورجال أعمال ومرافقون من مختلف الأصناف، والتعداد بالآلاف، يلتقون، بدعوة من منظمة الأغذية والزراعة، في العاصمة الإيطالية روما، بين السادس عشر والثامن عشر من الشهر الجاري، للبحث عن حلول لمشكلة الجوع أو، بكلام أكثر دقة، للتظاهر بالبحث عن حلول لتلك المشكلة.

بدليل أن عاماً لا ينقضي منذ أكثر من ستين عاماً من دون أن يشهد انعقاد قمة أو أكثر لمكافحة الفقر والجوع ولإطلاق عمليات التنمية، وبرامج المساعدات... من دون أن يفضي ذلك إلا إلى المزيد من تفاقم المشكلات، ما يوحي بأن ما يجري هو رعاية للمشكلات لا بحث عن حلول.

تشي بذلك غالبية التحليلات التسميمية حول أسباب المشكلة. سيد تلك التحليلات هو ذاك الذي، زوراً، يعتبر الفقر والجوع نتيجة للتوالد البشري، وقصور الأرض عن تلبية الاحتياجات الغذائية. ومن هذا المنظور، لا شيء يمكنه أن يكون أكثر سهولة من الحلول. تقليص الإنجاب، وتقليم المؤسسات التي (كالأسرة) هي أرضية الإنجاب، وما يرتبط بذلك من تشجيع منع الحمل، والإجهاض، وأنواع الشذوذ، والطلاق، مع إبداعات لا تحصى في مجال تشجيع فردانية العيش. ولتدعيم هذا التحليل، تضرب الأمثلة، على لسان كبار السياسيين، عن تحسن القدرات الشرائية عند الصينيين مثلاً، وأثر ذلك في تزايد الطلب على الغذاء، وبالتالى على شح الغذاء.

لكن سيد التحليلات هذا يتكتم على الحقيقة التالية: حتى في البلدان الفقيرة (بأكثرية سكانها، لأن أقليتهم المتنفذة تولد بين ملاعق الذهب وصحون الخزف والبللور وأصناف الطعام الفاخر) تجاوز إنتاج الأغذية حجم الطلب على الأغذية، والمخزونات المحتكرة متوافرة ومتبحبحة. وعلى المستوى العالمي، تجاوز إنتاج الأغذية الطلب عليها بنسبة ثلاثة أضعاف. صحيح أن تضاؤل الطلب قد يعود جزئياً إلى عجز الكثيرين من الناس عن الشراء، لكن التزايد السكاني وعجز الأرض بريئان براءة الذئب من دم يوسف.

وقد يتمتع التحليل الذي يوجه إصبع الاتهام إلى التغيرات المناخية ببعض الصحة. لكن هذه التغيرات بريئة أيضاً بالصورة ذاتها، لأنها لم تحل دون تراكم الإنتاج الزراعي بالنسب المذكورة.

وإذا ما أردنا الحديث عن الأسباب الحقيقية، تكر أمامنا سبحة طويلة: إعادة الهيكلة أو الترتيب البنيوي، تلك العمليات التي تمت خلال العقود الماضية بقيادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبتواطؤ الحكام وأكثر الناس، والتي تمكنت من إلحاق أكبر قدر من الدمار بالاقتصاد الزراعي في بلدان العالم الثالث، واستبدلتها بقطاعات طفيلية كالخدمات والسياحة والدكاكين والنقل والصحة والتعليم بما يشتمل عليه القطاعان الأخيران من صفقات فضائحية.

المساعدات الحكومية للمزارعين في بلدان الغرب بهدف إحراق الأسعار، عبر إغراق الأسواق بمنتجات رخيصة الثمن لتكسيد منتجات بلدان العالم الثالث. والمعروف أن هذه المشكلة التي تقذف سنوياً بالملايين من المنتجين في البلدان المسماة نامية إلى مهاوي الإدقاع، هي في أساس الانهيار الحالي لمنظمة التجارة العالمية التي كلف إنشاؤها التدريجي عقوداً طويلة من الزمن.

هنالك إذاً سبب سياسي للمشكلة هو استنزاف شعوب العالم من قبل الدول والشركات الغربية، عبر تحويلها إلى قوى مستهلكة، ومن ثم إلى قوى عاجزة عن الاستهلاك، وجائعة وضعيفة وسائرة على طريق الاندثار. شكل من أشكال الإبادة الجماعية التي لا تلفت إليها منظمات حقوق الانسان، والتي تمارس جنباً إلى جنب مع أشكال أخرى كالحروب وبرمجة اختراع الفيروسات والإدخال المنظم لشتى أنواع السموم في جينات المنتجات الزراعية...

قمة الجوع المنعقدة في روما لن تقدم شيئاً على طريق الحل، شأنها في ذلك شأن القمم السابقة. جديدها اللافت هو أنها نقلت المشكلة من إطارها الواقعي إلى إطار المزاح السمج في قالب الخيال العلمي: عام 2050، أي بعد أربعين عاماً غارقة في مجاهل المستقبل، حيث لا يدرى من يعيش ومن لا يعيش، سيصبح عدد سكان العالم 9،1 مليار نسمة. ولإطعامهم سيكون من الضروري رفع مستوى الانتاج الغذائي بنسبة 70 بالمئة. وهكذا، تتم ملطشة المشكلة الراهنة باسم حمل هم المستقبل البعيد. تفكير استراتيجي حقاً.

والمؤسف هو ندرة أو حتى غياب الأصوات التي ترتفع بحمل الهم الحقيقي، وبتقديم الحلول الحقيقية، مع كونها بسيطة وأساسية في أهم إيديولوجيا عرفها التاريخ. والمؤسف أكثر من كل ذلك، أن نأمات لا تكاد تسمع، تنطلق لا عندنا، حيث يفترض وجود بقية الحكمة، بل في الغرب، لتتحدث عن "الزراعة الأسرية"، "المعيشية" كحل لا يعلو عليه حل آخر. أي أنها تتحدث عن واقع صار في ذمة التاريخ بالنسبة لبلدان الغرب، بينما لا يزال موجوداً، ومقاوماً، وممانعاً، بالإمكانيات الضئيلة وبرغم تضافر الزمان، في بعض الرقع المنسية في بلداننا. مرة أخرى، هل ننتظر من الغرب أيضاً، ذلك الغرب الذي نشترى منه كل شيء تقريباً، أن يعيدنا إلى أنفسنا، وإلى حقائقنا البديهية؟
2009-11-17