ارشيف من :أخبار عالمية
كرة القدم وحروب الأشقاء
عقيل الشيخ حسين
تحظى الرياضة، وخصوصاً تجلياتها ذات الطابع الصراعي، وبالأخص كرة القدم، بالكثير من الشعبية والتبجيل لأنها، بين مزايا أخرى، ووفقاً لما يفترض، تشجع روح المبادرة، وتعزز التعاون والعمل الجماعي، وتقوي ما يسمى بالروح الرياضية التي يفترض بموجبها أن يحظى المتنافسون باحترام بعضهم البعض.
لكن يبدو أن ذلك يظل مجرد افتراض أو أمنية عند أولئك الذين يعتقدون بقدرة الرياضة على أن تكون بديلاً للحرب : تسد ما يفترض أنه حاجة غريزية عند الانسان للتعارك بتعارك "ودي" أو "حبي"، يخرج منه المنتصرون والمنهزمون وقد حققوا رقياً على مستوى إنسانيتهم.
افتراض أو أمنية يتلاشيان لصالح وجه آخر للرياضة يجعلها واحداً من أسباب الحروب التي تفتقر افتقاراً تاماً للمعقولية. تلك الحروب التي يصح وصفها بالمجنونة إلى أبعد حدود الجنون.
والأدلة على ذلك لا تحصى. فقبل 40 عاماً، أسفرت مباراة في كرة القدم بين هندوراس وسلفادور دامت خمسة أيام استعملت خلالها كل الأسلحة المتوفرة، بما فيها الطيران الحربي، وأسفرت عن مقتل 2100 شخص من الطرفين. وإذا ما تجاوزنا ما يسمى بالتجاوزات التي يندر ألا تحدث عند كل مناسبة رياضية، لا نجد تعبيراً غير الصدمة ونحن نشاهد ونسمع فصول الأحداث التي رافقت تنافس مصر والجزائر على الفوز بالمشاركة في كأس العالم للعام 2010.
في القاهرة، جرت المواجهة الأولى وارتفعت الأصوات مشفوعة بالصور عن تعديات وتعديات مضادة. وراح كل جانب يبرئء نفسه. وإذا ما تجنبنا الجدال حول البريء والمذنب بين أنصار الفريقين، لا يسعنا أن نتجنب التحريض والتجييش بطرق "غير رياضية" من قبل العديد من وسائل الإعلام في البلدين "الشقيقين".
وعندما نتحدث عن وسائل الإعلام، فإننا لا نتحدث عنها بصفتها سلطة رابعة يفترض بها أن تكون صوت الناس وضميرهم الحي، بل بصفتها أدوات في أيدي جهات سياسية ومالية. بكلام آخر هنالك جهات سياسية ومالية هي التي توظف في التحريض والتجييش. مالية، لأن الرياضة بمؤسساتها المتكاثرة أصبحت مجالاً لتحريك الرساميل الضخمة. وسياسية، لأن كثيراً من السياسيين يهمهم إيجاد مجالات للتنفيس وتفريغ الشحنات عند شعوبهم بعيداً عن القضايا الحقيقية. أي عن طريق الإلهاء.
وفي الخرطوم، جرت المواجهة الثانية. وكل شيء كان جاهزاً لإضرام المواجهة. كلا البلدين حشد الآلاف وأقام جسوراً جوية لنقل المشجعين، مع تسهيلات وإعفاءات من التكاليف. وتضاعفت في الخرطوم أسعار سلع كالسكاكين والبلطات لشدة الإقبال من قبل مناصري الفريقين، المصري والجزائري. واكتظت الشوارع في العاصمة السودانية، وبدأت العراكات حتى قبل بداية المباريات. وهنالك مصادر صحفية أكدت سقوط قتلى. وبالطبع، كانت السلطات السودانية قد أعلنت حالة الطواري في محيط الملعب ونشرت أكثر من خمسة عشر ألف شرطي مدججين بكل ما يلزم.
وبعد المباراة، أطبق الصمت على القاهرة. وشوهد الكثيرون يذرفون حر الدموع. أما في الجزائر العاصمة، وسائر المدن الجزائرية، وبلدان العالم التي يتواجد فيها جزائريون، فقد عم الفرح الطاغي. أكثر من مليون شخص استقبلوا الفريق العائد بالتصر المؤزر. والسياسيون في كلا البلدين نزلوا إلى الساحات، ساحات الفرح أو ساحات الحزن. واستمر التراشق، واستدعاء السفراء، وسجلت حوادث أمنية واعتداء على الممتلكات، وصدرت تعهدات رسمية بالمحافظة على أمن الجاليات. وباختصار، قد يقول القائل، لحسن الحظ أن البلدين الشقيقين تفصل بينهما آلاف الأميال والصحاري ولا تربط بينهما حدود مشتركة.
لم يتردد بعض المعلقين في الاستهجان وهو يقارن بين المعاملة التي لقيها الجزائريون في القاهرة، وبين المعاملة التي يلقاها الإسرائيليون في شرم الشيخ وغيرها. وبعضهم الآخر لاحظ أن ردود فعل من هذه الأنواع كان ينبغي لها أن تظهر في شارعي البلدين، ولو مخففة آلاف المرات، أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان، ثم على غزة.
لكن الاستهجان صار عادياً، بل مبتذلاً، في زمن طغت عليه المستهجنات. والأحرى هو إيجاد جواب على السؤال : كيف يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد من الجنون ؟
دراسات رصينة، في الغرب طبعاً، أي حيث ولدت كرة القدم، تقول بأن هذا الهوس الرياضي منشؤه عجز السياسة والدين والفكر عن ملء الفراغ المتراكم في نفوس الجماهير. كلام قابل للنقاش، بالطبع. ومنها ما يقول بأن الرياضة قد أصبحت، في ظل غياب المشروع المجتمعي، واحداً من أدهى المخدرات الثقيلة في المجتمعات الغربية، وبالتالي في المجتمعات السائرة في الركاب. وبعضها الآخر يحلل الدلالات الانتروبولوجية واللاهوتية للمسلك الرياضي، ليصل إلى القول بأن كرة القدم هي الوثنية المعاصرة بامتياز. وذلك قابل للنقاش بالطبع. وفي ظل ما جرى ويجري بين مصر والجزائر، وما يجري بشكل عام ... يجب أن يناقش بطريقة "رياضية"، بالمعنى المفترض للكلمة.