ارشيف من :أخبار عالمية
قمة المناخ في كوبنهاغن... أضخم نشاط تلويثي في التاريخ!
عقيل الشيخ حسين
هنالك يومياً كميات متزايدة من المواد والغازات التلويثية التي تنتجها آلات البشر وأنشطتهم الحضارية، التكيفية والترفيهية، المختلفة. وقد بات من المعروف أن عالم هذا العصر الصناعي الذي يدين بكل وجوده للمحركات التي تتحرك بالطاقة الأحفورية وغير الأحفورية، يبز جميع العصور بقدراته التلويثية الهائلة. يكفي النظر، بين ظواهر أخرى، إلى جبال النفايات التي تحاصر المدن "المزدهرة"، وإلى ما يظلل هذه المدن من سحب الغبار والدخان والسخام الكثيف. ويكفي الانتباه إلى الكم الهائل من الكلام الذي يقال بخصوص البيئة، والمناخ، والكارثة المناخية.
وهنالك أمكنة وأوقات يرتفع فيها منسوب التلوث بالمقارنة مع أمكنة وأوقات أخرى. والمكان المسمى كوبنهاغن والطرق الموصلة إليه، والفترة الواقعة في كوبنهاغن بين 7 و 24 كانون الأول / ديسمبر 2009، هما المكان والزمان اللذان سترتفع فيهما، إلى حد غير مسبوق، نسبة التلويث الناشئ عن النشاط البشري في التاريخ الحديث... على أساس أن التاريخ القديم، بكل رجعيته وتخلفه، لم يكن يعرف على الإطلاق ظاهرة التلوث التي تفتك بعالم اليوم.
لماذا كوبنهاغن بالذات؟ ولماذا هذه الفترة المحددة بالذات؟ بالذات، لأن كوبنهاغن تستقبل في هذه الفترة أضخم قمة عالمية يفترض بأنها ستحاول التوصل إلى اتفاقات حول معالجة الكارثة المناخية.
لقد بات من المعروف علمياً، أن هنالك ما هو أشد خطورة من التلوث الناجم عن احتراق الطاقة: كل شيء يحترق يحرق معه كمية من الأوكسيجين، ذلك الإكسير الذي تقوم عليه الحياة والذي بات قاب قوسين أو أدنى من مفارقة الحياة.
والنفط هو واحد من المواد التي تحترق وتحرق معها ما يحيط بها من أوكسيجين. كل غرام من النفط يحترق داخل محرك من المحركات يحرق معه ثلاثة غرامات من الأوكسيجين. أي أن صفيحة البنزين (حوالي 20 كغ من البنزين) التي يحرقها محرك السيارة تحرق معها 60 كغ من الأوكسيجين. وإحراق هذه الكمية يترك بلا أوكسيجين كمية من الهواء بحجم جبل شاهق الارتفاع. وغاية القول ان قيادة السيارة لمدة ساعة واحدة تحرق كمية من الأوكسيجين تكفي لتنفس إنسان لمدة سبعين عاماً. بكلام آخر قيادة السيارة لمدة ساعة تشطب من الوجود حياة إنسان قبل أن يوجد.
محامو الشيطان سينبرون إلى القول بأن هذا الكلام غير صحيح لأن الغابات والنباتات البحرية تنتج الأوكسيجين. هذا صحيح. ولكنهم يتناسون مظهراً آخر من مظاهر الكارثة المناخية: الموت المتسارع للغابات وللنباتات البحرية لأسباب "حضارية" لا تحصى، ويتناسون واقع أن إحراق الأوكسيجين يتم بوتائر تفوق بآلاف الأضعاف وتائر إنتاجه من قبل ما تبقى، بفعل "الفساد الظاهر" في البر والبحر من نباتات.
عشرات الآلاف من الأشخاص، رؤساء وملوك وقادة وتابعون وصحافيون، من مئة وتسعين دولة توافدوا على كوبنهاغن قبل ومع انطلاق أنشطة القمة. منهم من توافد بقصد المشاركة في القمة التي تسعى إلى الحد من تأثيرات الكارثة المناخية والبيئية. ومنهم من توافد بقصد الاحتجاج ومطالبة السلطات باعتماد سياسات "صديقة للبيئة"، بالمعنى الملوث للصداقة. والفريقان وصلوا إلى كوبنهاغن على أجنحة التلوث. بالسيارات والطائرات (القدرة التلويثية لمحرك الطائرة تفوق قدرة محرك السيارة بثلاثين ألف ضعف) والسفن والقطارات. منها قطار انطلق من بروكسل ليكون شاهد الزور الأكبر بزعم أنه يعمل على طاقة يزعم أنها نظيفة. بمعنى أن قدرتها التلويثية تقل بعض الشيء عن قدرة الطاقة الوسخة. مع تناسي أنها تلعب الدور نفسه، بما هي محرقة للأوكسيجين، ومنتجة للحرارة، في التسبب بظاهرة الانحباس الحراري، أو "الاحترار"، على ما يقوله المتقعرون في اللغة.
عشرات الآلاف من البشر وصلوا إلى كوبنهاغن بنيات طيبة من النوع الذي تعبّد به الطرقات إلى جهنم! كم هي كمية الأوكسيجين التي أحرقوها في مجيئهم، والتي سيحرقونها في عودتهم، في طائراتهم وسياراتهم ووسائل نقلهم الأخرى، للوصول إلى كوبنهاغن، وللرجوع من كوبنهاغن؟ دون حساب أشكال التلويث الأخرى. أليس من الأفضل للبيئة وللمناخ، طالما أننا نعرف مسبقاً بأن المشكلة لن تحل في كوبنهاغن، وبالأساليب التي يكثر الحديث عنها، لو أن هؤلاء قروا في بيوتهم ووفروا على هذا الكوكب الحزين، الجائر بالشكوى، هذه القمة في إحراق كل هذه الكمية الهائلة من الأوكسيجين المتلاشي؟
وقمة كوبنهاغن ليست الوحيدة. فقد أصبح عالم اليوم بحراً تتلاطم فيه سفن القمم "الجماهيرية" التي تعقد للمناخ وضد الجوع ومن أجل المرأة والطفل والحيوان والسلام والسياسة والثقافة والرياضة. وكلها قمم لا تنجح إلا في تعميق الكارثة المناخية بسياراتها وطائراتها ووسائل نقلها، دون الحديث عن فنون التلويث الأخرى.
ربما لم يعد بعيداً اليوم الذي يفاجئ فيه العالم تقرير يبين أن كل هذه المؤتمرات والقمم "الجماهيرية" التي تجتاح عالم اليوم لا تعقد بهدف البحث عن حلول للمشكلات المطروحة، بل تستخدم هذه المشكلات كحصان لترويج السياحة والترفيه، لا فرق في هذا البلد أو ذاك، طالما أن الريع يعود في النهاية إلى شركات الطيران وغيرها من وسائل النقل وسلاسل الفنادق والمطاعم الفخمة، ومختلف أنواع الدكاكين.
وليست القمم والمؤتمرات وحدها هي ما يفتك بالأوكسيجين المشرف على النضوب. كل نشاط بشري "حضاري" يتحمل قسطاً من المسؤولية، بقدر ما صارت المحركات العاملة بالوقود الأحفوري وغير الأحفوري هي عناصر النشاط البشري الأساسية، من البراد والغسالة والمكنسة والبوتوغاز والآي سي وصولاً إلى السيارة والطائرة...
أليس من الأفضل للبشر أن يهدأوا ويقروا ويبحثوا لأنفسهم وللأجيال القادمة، ذات الحق بالحياة، عن أنشطة نظيفة غير منتجة للملوثات، بدلاً من أن يقتلوا أنفسهم وأهليهم بهذه الملوثات؟
وهنا سينبري المحامون، المشار إليهم أعلاه، مرة أخرى، إلى القول بأن البشر قد أصبحوا مجبرين على أنماط العيش العصري ولم يعد من الممكن الرجوع إلى الوراء. كلام صحيح لكنه يتناقض بالكامل مع مزاعم "الحرية" التي يزعمون بأنهم يتمتعون بها ويبذلون الرخيص والغالي من أجل الدفاع عنها.