ارشيف من :أخبار عالمية
بالحرب وبالكذب أيضاً... يفوزون بجائزة نوبل للسلام
"الانتقاد.نت" - عقيل الشيخ حسين
لا شك بأن أوباما كان صادقاً، وإن بشكل مصطنع، عندما قال، في حفل تسليمه جائزة نوبل للسلام في العاصمة النروجية، بأنه لا يستحق تلك الجائزة. لكن الأكيد أنه كان كاذباً في جميع أقواله الأخرى التي تطرق فيها إلى عدد من قضايا الساعة على المسرح الدولي.
بصدقه المصطنع ذاك، استثمر أوباما في ألمعيته وفصاحته الخطابية، ليظهر بمظهر المتواضع. ونجح في ذلك أمام حفل جلّ المشاركين فيه هم، في علاقتهم بالعالم ومشكلاته، من نوع ماري أنطوانيت التي استغربت خروج الناس للتظاهر من أجل الحصول على الخبز، إبان الثورة الفرنسية، على أساس أنهم يستطيعون تناول البسكويت بدلاً من الخبز. نجح في ذلك إلى حد بكى معه العديد من الحضور.
لكنه نجح أيضاً، وهذا تعبير فاضح عن ضعف فهمه لمستتبعات أقواله، أو عن شدة لا مبالاته بالرأي العام الحالي والتاريخي، في الكشف، دون قصد طبعاً، عن مدى التسييس والتحيز اللذين يحكمان خيارات اللجنة المانحة للجائزة. كيف تقوم هذه اللجنة بمنح الجائزة لشخص هو نفسه يعترف بأنه لا يستحقها!؟
زعم أوباما في خطابه أنه تجاوز ما أسماه بالتناقض الظاهري في منح جائزة السلام لرئيس دولة تخوض حربين في وقت واحد. ولم يضف جديداً على المعزوفة التي اعتمدها سلفه جورج بوش، وراثة عن المعزوفة الاستعمارية التقليدية: حروب وقائية واستباقية وجيوش ترسل إلى أربعة أقطار المعمورة وقنابل نووية وغير نووية تلقى هنا وهناك لأغراض تسمى إنسانية كتحرير الشعوب ونشر الديموقراطية والحضارة أو للدفاع عن النفس. وخصوصاً الحروب التي يخوضها صانعوها الطيبون التواقون إلى السلام رغماً عنهم. لأنهم، بزعمهم يخوضون حروباً دفاعية. إنها معزوفة الجزار الذي يذرف دموع الرحمة على النعجة التي هو بصدد ذبحها.
وكرر القول بأن حروب أميركا في العراق وأفغانستان ليست نتاج قرار أميركي، مستدلاً على ذلك بما اعتبره إجماعاً عالمياً على المشاركة فيها، باعتبارها حروباً تهدف إلى الدفاع عن العالم بأسره.
لكنه، هو الذي يسعى إلى إزالة ما أسماه بالتناقض الظاهر، وقع في العديد من التناقضات المكشوفة. ما الذي يعنيه انسحاب العدد الكبير من البلدان المشاركة في تلك الحروب، وتذمر البلدان المتبقية، ووقوف الحلف الأطلسي على شفا التفكك، بعد كل ذلك الإجماع وكل ذلك الإيمان بالطبيعة الدفاعية لتلك الحروب؟ فبالعودة إلى الكلام عن الإجماع العالمي المنحل، أطلق أوباما، على غير وعي منه، نداء استغاثة في وقت باتت أميركا تداري فيه هزائمها بالتصعيد المفتوح على القفز في الفراغ المظلم، وبالأمل في إعادة الحياة إلى التحشيد العالمي.
ووقع في التناقض عندما تجاهل في حديثه عن "البلدان" و"الإجماع" الواقع المتمثل في كون حكومات البلدان لا البلدان نفسها هي من يشارك في تلك الحروب، ومن يحتقر الديموقراطية عبر احتقار إرادة غالبية مواطني تلك البلدان. أليس أن ستين بالمئة وأكثر من سكان البلدان المشاركة يطالبون بالانسحاب من الحرب. أوليس أن نسبة التأييد للحرب قد انخفضت إلى مستويات أدنى بكثير في أواخر ولاية جورج بوش، الذي سارع أوباما، قبل أن يجف حبر ما وجهه إليه من انتقادات، إلى اعتماد سياساته والغلو فيها من وراء قفازه المخملي؟
كما وقع في التناقض الصريح والمكشوف عندما طالب بموقف حازم ضد البلدان التي لا تحترم القوانين الدولية. وسمى كوريا الشمالية وإيران، علماً بأن الأولى تعتمد برنامجاً نووياً عسكرياً تعتمده بلدان أخرى كثيرة، لم يشر إليها أوباما، في تناقض واضح مع القوانين الدولية. وعلماً بأن البرنامج النووي الإيراني هو برنامج سلمي مشروع في نظر القوانين الدولية، في حين أن "إسرائيل" التي يحوطها أوباما بكل رعايته تمتلك ترسانة نووية ضخمة، إضافة إلى كونها الأطول باعاً في انتهاك القوانين الدولية وفي كونها التهديد الأول للاستقرار العالمي باعتراف الرأي العام الغربي.
ووقع في التناقض أيضاً عندما وعد بالـ "بدء" بالانسحاب من أفغانستان في منتصف العام 2011، رابطاً ذلك بتطورات الوضع الميداني الذي يعرف مسبقاً بأنه، في ظل تصاعد المقاومة، لن يستدعي غير إطالة أمد الحرب، فيما لو بقيت لأميركا العجوز قدرة على مواصلة الحرب.
ولكن هل يعبأ أوباما بما يقع فيه من تناقضات كاشفة عن الكذب؟ لا بالتأكيد. وأغلب الظن أنه يأمل في أن ترفع براعته في التحايل على الحقيقة من أسهمه في استطلاعات الرأي، أو في نظر اليد الخفية التي تتحكم بسلوكه السياسي، في ظل ازدهار صناعة القيم الفاسدة وترويجها عمودياً وأفقياً.
ولعل هذا ما لاحظه طوني بلير الذي خاف، فيما يبدو، من أن يذهب أوباما بشرف تبني حروب الغزو، فسارع أمام لجنة التحقيق البريطانية في الحرب على العراق، إلى التصريح بأنه كان ينوي المشاركة في الغزو حتى ولو تبين أن العراق لا يمتلك أية أسلحة للدمار الشامل، مضيفاً ذلك إلى أكاذيبه وأكاذيب بوش بشأن التقارير الاستخبارية الملفقة حول امتلاك العراق لتلك الأسئلة.
وبالنتيجة، قد يكون أوباما قد كسب معركة في مجال اللغو الكلامي، في وقت يلعب فيه اللغو الكلامي دوراً هاماً في كسب المعارك. لكن اللغو، في نهاية المطاف، شيء، والميدان شيء آخر. ومن يدري، إذ ربما يكون أوباما قد تحول، شأن بوش، إلى رجل عادي غير مسؤول عما اقترفت يداه، يوم تسفر الحرب الميدانية عن نتيجتها الحاسمة. وعلى الأرجح أن خروجه المحتوم من دائرة النشاط السياسي هو ما يغذي عنده الإحساس بأن الإمعان في الكذب قد أصبح حصان طروادته الأخير.