ارشيف من :ترجمات ودراسات
خاص الانتقاد.نت: ما بين الحرب وخيار القوة الناعمة أية صراعات متاحة؟
الأولويات الحالية للتحديات التي تواجه اليوم العدو الاسرائيلي
حسان إبراهيم
نهضت العقيدة العسكرية القتالية للعدو الاسرائيلي تاريخياً على ثلاثة أعمدة رئيسية هي: مفهوم الردع الذي يراد منه كسب الحرب بدون خوضها من خلال منع الخصم من مجرد التفكير فيها، خوض الحرب في أرض الخصم الذي يفترض ضمناً الاحتفاظ بعامل المبادرة والمفاجأة والقيام بالخطوة أو الضربة الأولى، وإلا فالمسارعة الى نقل العمليات العسكرية وتركيزها الى أرض الخصم بعيد تطويق خطوته الأولى. والأخير، يتمثل بضرورة انجاز أهداف الحرب بسرعة منعاً لإطالتها، ما يتطلب الاحتفاظ بقوة ساحقة، ومعلومات دقيقة عن المراكز والمفاصل الحساسة لدى الخصم، حتى إذا ما وجهت ضربة اليها، تم القضاء على الخصم. هذه العناصر أو الأعمدة الرئيسية للعقيدة القتالية للعدو الاسرائيلي لم تتغير حتى الآن، لأن العوامل التي فرضتها ما زالت قائمة، والتي يأتي في طليعتها الموقع الجغرافي لفلسطين المحتلة، الذي يجعل من السهل كشف عمقها الداخلي، وعدد السكان القليل للعدو الاسرائيلي، والطبيعة الاستيطانية للكيان الاسرائيلي التي تتطلب توفير أعلى درجات الأمن له لكي يستمر ويحافظ على وجوده. طبعاً جرى تكييف متطلبات الإبقاء بهذه العناصر مع المتغيرات التي فرضتها التطورات التكنولوجية خاصة في مجال العلوم العسكرية.
استناداً الى ما تقدم يمكن فهم الأولويات الحالية للتحديات التي تواجه اليوم العدو الاسرائيلي، والتي يجري ترتيبها وفق التالي:
أ ـ التحدي النووي الإيراني.
ب ـ التحدي الصاروخي في جنوب لبنان.
ج ـ التحدي الصاروخي في قطاع غزة.
ينظر الكيان الاسرائيلي الى هذه التحديات من زاوية ما تشكله من خلخلة لأعمدة عقيدته القتالية لا سيما المتمثل منها بعامل الردع، وعدم القدرة على منع وصول الحرب الى جبهته الداخلية، اضافة الى عجزه عن التحكم بعمر الحرب، وبالتالي النجاح في تحقيق أهدافها، ولذا، يجهد هذا الكيان لترميم أعمدة عقيدته القتالية من خلال استراتيجية مكملة ترتكز على نحوٍ رئيسي على ثلاثة عناصر أيضاً، هي:
أ ـ رفع درجة التهديد الى الحد الأقصى، وممارسة كل أشكال الضغوط الممكنة، لرفع منسوب الردع الى الحد الأقصى.
ب ـ إحداث تغيير في الوضع النفسي واللوجستي للجبهة الداخلية، بمعنى تأهيلها لتكون شريكة مباشرة في أي حرب مقبلة، إضافة الى وضع البرامج التدريبية التي من شأنها تعويد هذه الجبهة على كيفية التعامل مع أي حرب مقبلة، وبما يقلل خسائرها الى الحد الأدنى.
ج ـ بذل الجهود العلمية والتقنية لإيجاد ما يسمى بالقبة الحديدية من فوق الكيان الاسرائيلي من خلال انتاج منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ.
طبعاً الوضع المثالي للكيان الاسرائيلي هو أن يتمكن من إعادة عقارب الساعة الى الوراء، بمعنى أن تكون البيئة الاستراتيجية المحيطة به خالية من أي قدرة نووية أو صاروخية، ولذا، فإن فكرة الحرب تبقى خياراً مطروحاً لديه سواء باتجاه ايران، أم باتجاه لبنان تحديداً، وحتى باتجاه غزة مجدداً، لكن خيار الحرب هذا، خصوصاً بعد عدوان تموز، لم يعد خياراً سهلاً، بل بات يتطلب حسابات بالغة التعقيد، في ظل عدم توافر اليقين المطلوب بإمكان حسم الحرب سريعاً لمصلحته.
بكلمة أخرى، إن كل ما يقوم به العدو الاسرائيلي يؤكد أنه يحضر نفسه لكل الخيارات لا سيما خيار الحرب الذي وإن بدا الآن ليس خياراً أول، لكنه قد يتحول في أي لحظة الى خيارٍ أول، وذلك اذا ما تبين له أن خيار الحرب سيكون أقل سوءاً من ترك الأمور على ما هي عليه، وأمكن له في نفس الوقت توفير اجماع أو على الأقل أرجحية كبيرة لمصلحة هذا الخيار داخل الكيان الاسرائيلي، وتوفير الغطاء الدولي اللازم له، مع تقدير أنه سيحقق أهدافاً أساسية منها، أو إذا تبين له أنه سيكون بمقدوره حسم الحرب سريعاً لمصلحته.
والذي يجعل هذا الخيار حاضراً بقوة لدى الكيان الإسرائيلي هو معرفته بأن من يقف في وجهه يستندون الى اعتبارات ايديولوجية ترفع التناقض معه الى درجة التناقض الوجودي، لا الى درجة التناقض في المصالح، التي تبقى تسمح بنسخة تفاوض تفضي الى تسويات ما.
وفي مطلق الأحوال، لا يبدو ـ حتى الآن على الأقل ـ أن كل ظروف الحرب باتت ناضجة لدى الكيان الاسرائيلي لا سيما على مستوى توفير الحماية اللازمة لجبهته الداخلية التي تبدو كلفتها باهظة جداً خصوصاً في ما يتعلق بمنظومة الدرع الصاروخية، ولا على مستوى توفير الاجماع السياسي المطلوب حول خيار حرب كبيرة بالشكل الذي يخطط له، ولا على مستوى ضمان نتائج الحرب بفعل التحضيرات الموازية لها في الجبهات المقاومة، ولا على مستوى توافر الظروف الدولية لا سيما الاميركية منها، بأن خيار الحرب هو الخيار الوحيد المتاح، حيث ما زالت واشنطن تتلمس طريقها بين خيار العقوبات والضغوطات المتنوعة على ايران وسط اغراء امكان اللعب بالوضع الداخلي، وخيار المفاوضات الديبلوماسية، والبحث عن حلول سياسية للتحديات.
إلا أن مراوحة الأمور في الفسحة الممتدة بين الخيارات القصوى والخيارات الدنيا، يجب أن لا توحي الينا بأي حال من الأحوال، بأن الأمور هي في حالة سكون، بل إن هناك هامشا كبيرا لحروب صامتة هو ما يطلق عليه بالحروب الناعمة، والتي تتشكل من مزيج من الحروب الأمنية والحروب الاقتصادية والديبلوماسية والاعلامية والثقافية.. الخ.
هذه الفترة هي الأخطر والأدق لأنها تتطلب تحصيناً كبيراً للجبهة الداخلية بوصفها الجبهة المستهدفة على نحوٍ رئيس لا سيما عبر الفتن، والاستنزاف على أنواعه، وعبر إثارة الشبهات والشكوك والظنون، وعبر الضغوط المؤلمة، كل ذلك في سياق اضعاف هذه الجبهة، وتحويلها الى أداة ضغط في يد العدو.
في هذا الإطار، يتم وضع حرب الشبكات الأمنية للعدو الاسرائيلي، كما يمكن وضع نبرة التهديدات العالية الموجهة ليس للقوى العسكرية المقاومة، وإنما للمجتمع المدني، وللدولة بكل بناها ومؤسساتها، كما يمكن وضع المساعي المشككة بسلاح المقاومة وإثارة الانقسام من حولها، والتحامل عليها، وتصويرها بوصفها الخطر الماحق الذي يتهدد لبنان، كل ذلك لإرباك الجبهة الداخلية من حول المقاومة، وضعضعة معنوياتها، واستنزافها في مواجهات سياسية وأمنية، تكون على حساب تركيز طاقاتها ومواردها باتجاه العدو الأساسي أي العدو الاسرائيلي.
ولذا، لا يمكن النظر الى المواقف الداخلية المصرة على الانخراط في ما يسميه عاموس بيلين توفير العنصر المربك لحزب الله داخلياً من خلال زجه في صراع مع قوى داخلية على الساحة اللبنانية تؤدي الى صرف طاقته وموارده، وتضعف وضعه الداخلي، فهؤلاء إما أنهم جزء من هذه الجبهة المناوئة للمقاومة، وإما أنهم يلاقون استراتيجيتها في سياق رهان بأن ذلك من شأنه أن يسرع الحرب على المقاومة بما يؤدي الى خلط الأوراق والتوازنات الداخلية لمصلحتهم.