ارشيف من :أخبار عالمية

موجة البرد في أوروبا وأميركا... مبررات للخوف !

موجة البرد في أوروبا وأميركا... مبررات للخوف !

عقيل الشيخ حسين

نشرات الأحوال الجوية في أوروبا وأميركا الشمالية تنصح الناس الذين يرغبون في الخروج من منازلهم بتغطية "كامل أجسامهم" بألبسة دافئة لاتقاء البرد الشديد. نصيحة استجاب لها الجميع، رجالاً ونساءً، حيث غطيت الرؤوس بأنواع القبعات، بدون أو مع إخفاء كامل الشعر، وخصوصاً مع زحف الشالات لتغطية مساحات واسعة من الوجه... بشكل كادت أن تزول معه الفوارق التي تميز النساءهناك عن المبرقعات اللواتي كن، قبل موجة البرد التي تعصف بالقارتين منذ أكثر من أسبوعين، عرضة لاستهداف وسائل الإعلام والأجهزة التشريعية.

إنها مجرد دعابة حول ظاهرة تبدل الأحوال من حال إلى حال. لكن تبدل الأحوال من حال إلى حال يصيب أيضاً أكثر الأمور جدية. فالثلج المتساقط على سفوح الجبال والذي يقصده الأوروبيون وغيرهم للتلذذ بالتزلج عليه، بات خلال الأسبوعين الأخيرين، وتحديداً منذ بداية فترة الأعياد التي ينتظرها الناس عادة للمبالغة في التمتع بالحياة، مصدراً للهم والكدر... والموت.

فالحقيقة أن مئات الأشخاص ماتوا من البرد في أوروبا وأميركا خلال الفترة المذكورة. كما تعطلت أكثر مرافق النشاط "الخارجي"، حيث لم يعد الخروج بالأمر السهل في ظل درجات برودة وصلت في العديد من المناطق إلى 40 تحت الصفر، وفوق طبقات من الجليد وصلت في بعض المناطق المأهولة إلى 40 سنتمتراً. واستطراداً، عانت حركة النقل معاناة شديدة حيث أقفلت عشرات المطارات وألغيت مئات الرحلات الجوية، وكذا الأمر بالنسبة للقطارات، وخصوصاً لعشرات الألوف من السيارات التي انزلقت واصطدمت أو تجمدت على الطرقات السريعة وانقطعت السبل بركابها الذين اضطر الكثيرون منهم إلى الاحتماء بداخلها لساعات طويلة، ليلاً أو نهاراً، مع كل ما في ذلك من مشقات مهلكة في بعض الأحيان.

خلال فترة الأعياد، كانت نشرات الأحوال الجوية تتنبأ بقرب انحسار موجة الثلج خلال الأربع وعشرين ساعة القادمة. وهي ما زالت تفعل ذلك بعد مضي أكثر من أسبوعين على بداية الموجة.

والجديد في الأمر أنك تسمع شروحات تقول بأن هذا البلد أو ذاك لم يشهد مثل هذه الظاهرة، لجهة قسوتها، منذ عشرين أو ثلاثين سنة، أو حتى منذ 112 سنة في مناطق كولاية فلوريدا الأميركية المعروفة باسم الولاية "المشمسة" لاعتدال مناخها وندرة تساقط الثلوج فوقها. أو كمانطق الميد وست الصحراوية حيث انخفضت درجات الحرارة إلى 28 مئوية تحت الصفر.

والجديد أيضاً أن المشكلة التي قاربت حدود الكارثة الطبيعية في بعض المناطق قد بدأت تنفتح على مشكلات اقتصادية واجتماعية ونفسية تضاف إلى ما هو قائم من مشكلات. لم تبدأ بعد بالظهور إحصاءات عن حجم الخسائر المالية الناجمة عن ارتباك أو شلل حركة النقل، وتضرر المزروعات والتديدات الكهربائية وارتفاع استهلاك الطاقة. فالأخبار بدأت تتواتر مثلاً عن ندرة الملح الذي يرش عادة على الطرقات للحد من الانزلاقات.

شبح الندرة يخيم أيضاً فوق السلع الاستهلاكية الضرورية. فالمتاجر بدأت تتعرض لعمليات غزو جماهيري شامل بحثاً عن الحليب والألبان واللحوم والخبز. والكميات المخزونة تتضاءل بالتوازي مع إقبال الجمهور الخائف على "التخزين". مدن كثيرة يزيد تعداد سكانها في أحيان كثيرة عن العشرين مليوناً، وكل سكانها يستهلكون، وبإفراط، مواد غذائية تأتيهم عن بعد مئات أو آلاف الكيلومترات بالقطارات والشاحنات وغيرها من وسائل النقل المشلولة بفعل الثلج والجليد. هنالك إذن مبررات وجيهة للخوف.

لا يدري أحد من البشر متى ستنحسر موجة الثلج والبرد. أنها قد أوقعت، حتى الآن، خسائر بشرية ومادية زائدة عن اللزوم. والأكيد أنها قد كشفت عن المزيد من نقاط الضعف والهشاشة في معسكر الإنسان في معركته المفتوحة مع الطبيعة. وسواء كانت هذه الموجة أو غيرها من موجات الأعاصير والجفاف مظاهر للكارثة البيئية الناشئة عن النشاط البشري أم مظاهر لحراك عادي في الطبيعة، فإنها تسلزم وقفة تأمل وتفكر ومراجعة من قبل الإنسان.

وبعد التأمل والتفكر والمراجعة، تستلزم عملاً باتجاه التغيير : تغيير لا يمكن في نهاية المطاف إلا أن يمس الأسس العميقة لأنماط التفكير التي قامت عليها هذه الحضارة، ولأنماط السلوك المسمى بالحضاري. أليس في عجز الإنسان، رغم كل تقدمه العلمي والتكنولوجي، عن حماية نفسه من ظاهرة طبيعية عادية حافز على ذلك ؟ ما هو مقدار العقل، في زمن الانتصارات المظفرة للعقل، في سلوكات من نوع تجمع ثمانين بالمئة من البشر في مدن عملاقة يأتيها كل رزقها من مسافات بعيدة بواسطة وسائل للنقل تتعطل بسبب هطول الثلج، أو انقطاع التيار الكهربائي، أو نفاذ الوقود، أو عطل في مفاعل نووي ؟

2010-01-13