ارشيف من :أخبار عالمية
نموذج من نماذج التنكيل بالمهاجرين في أوروبا
عقيل الشيخ حسين
الهجرة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية هي واحدة من المشكلات الكبرى المطروحة على بساط البحث والمعالجة في المنتديات الدولية. مباشرة أو إلى جانب مشكلة الإرهاب. لأن بين المهاجرين أكثرية من المسلمين، ولأن كثيراً من الأوروبيين والأميركيين يرون في هذه الظاهرة اجتياحاً خطيراً لبلدانهم أو، على الأقل، يعتبرون أن هؤلاء القادمين ينافسونهم على أرزاقهم.
والمعروف أن ظاهرة الهجرة إنما كانت نتيجة مباشرة لحاجة البلدان الغنية إلى اليد العاملة الرخيصة، وإن كانت قد تحولت فيما بعد، عبر التجنيس، إلى وسيلة لردم الهوة الناشئة عن نقص المواليد والشيخوخة الاجتماعية والخلل الديموغرافي.
وإذا كانت المستعمرات أو المستعمرات السابقة هي التي كانت تمد أوروبا بالمهاجرين، فإن التوجه الحالي هو إعطاء الأولوية في غرب أوروبا لاستجلاب المهاجرين من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، أو حتى من أميركا اللاتينية، كما في حالة إسبانيا التي ردت على نضالات المهاجرين المغاربة من أجل تحسين أوضاعهم باستجلاب مهاجرين من الإكوادور، على أساس أنهم أكثر قرباً لجهة الدين واللغة.
ومع ذلك، فإن المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة في أوروبا الغربية يعدون اليوم بعشرات الملايين. وبرغم المحاولات، الناجحة أو الفاشلة، لإدماجهم، فإن وجودهم يطرح العديد من المشكلات الحقيقية أو المصطنعة، وكثيراً ما يشكل رافعة تستغل لأغراض سياسوية ليس فقط من قبل الأحزاب اليمينية المتطرفة، بل من قبل جميع الأحزاب بلا استثناء. والكل يذكر كيف أن الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، وهو يميني معتدل، قد أثار فضيحة حقيقية عندما تكلم عن الروائح الكريهة التي تفوح من الأحياء التي يقطنها المهاجرون. كما يذكر الجميع ما لا يحصى من انتفاضات قام بها المهاجرون وأعمال قمع رسمي واسعة النطاق تعرضوا لها، إضافة إلى ما يشبه الحروب الحقيقية التي تشن عليهم من قبل المتطرفين.
والأحداث التي جرت مؤخراً في مدينة روزارنو في جنوب إيطاليا هي غيض من فيض، وتعطي فكرة عن أوضاع المهاجرين السريين في أوروبا الذين يتعرضون، بوجه خاص، لأبشع أشكال الاستغلال والتنكيل. فالمدينة التي تعد 15 ألف ساكن يعيش في جوارها نحو 2000 من العمال الزراعيين الموسميين القادمين من إفريقيا والذين يعملون، في ظروف مزرية، في قطاف الأشجار المثمرة، والحمضيات بشكل خاص.
وقد أسهبت وسائل الإعلام الغربية في وصف ظروف معيشتهم الصعبة، حيث ينامون في العراء أو في أبنية المصانع المهجورة بلا ماء وكهرباء، ويدفعون من أجورهم الزهيدة خوات معلومة ومرهقة للمافيات. وبما أنهم موسميون، فإن الحاجة إلى وجودهم تنعدم عند نهاية موسم القطاف.
ومن الطبيعي لهذا المهاجر السري الذي وصل إلى أوروبا بطريقة أو بأخرى، عبر قنوات المافيا، ألا يكون مستعداً لمغادرتها عند نهاية الموسم. فهو يفضل تدبر شؤونه كيفما اتفق بانتظار مواسم تالية، وغالباً ما يتمكن من ذلك بمقدار ما يعيش "مختفياً عن الأنظار".
لكن يبدو أن "أولويات" جعلت من وجودهم أمراً غير مرغوب فيه. إعلاميون كثيرون، وحتى الصحيفة الناطقة باسم حزب برلسكوني اتهمت المافيا بأنها هي التي افتعلت أحداث روزارنو.
مجموعة من عمال البساتين الأفارقة تمر بهم سيارة على إحدى الطرقات، ويطلق ركابها النار عليهم من بنادق للصيد، فيجرحون عدداً منهم. ومع انتشار الخبر، قام نحو مئة من هؤلاء العمال بتكسير واجهات بعض المحلات التجارية وشبابيك بعض السيارات، وأحرقوا سيارة واحدة.
وفي صبيحة اليوم التالي، جاء الرد صاعقاً من قبل الأهالي الإيطاليين. ظهرت بنادق الصيد وأقيمت الحواجز على الطرقات، وبدأت عمليات مطاردة استمرت طيلة النهار وشطراً من الليل، وكانت الحصيلة سقوط عشرات الجرحى، وعودة الهدوء بعد تدخل قوى الأمن، بعد أن خلت المدينة وجوارها من هؤلاء الغرباء الذين فروا تاركين وراءهم أوعيتهم المليئة بالـمعكرونة، على ما ذكرته بعض الصحف.
وفي هذه الأثناء كانت البلدوزرات قد أزالت الأكواخ التي كانوا يأوون إليها من الوجود. وبدأت تسمع في الشوارع عبارات من نوع "لقد نالوا ما يستحقون"، أو "كان علينا أن ندافع عن نسائنا وأطفالنا"، أو "استقبلناهم وأطعمناهم وشكرونا بأن أحرقوا مدينتنا"... قصة الذئب الطيب والنعجة الشريرة!
أحداث مشابهة، أقل أو أكثر خطورة، تشهدها جميع مناطق أوروبا. وقد يقال الكثير عن العنصرية والاستغلال والعبودية التي تعيشها شرائح واسعة من المهاجرين. لكن ما ينبغي أن يقال أكثر هو عما فعلته قرون من الاستعمار ببلدان العالم الثالث، وعقود من الإصلاحات البنيوية، أو عمليات الإفقار المنظم التي قادتها المؤسسات المالية والشركات العابرة للقارات، بتواطؤ من الأنظمة الحاكمة في بلدان العالم الثالث. تلك العمليات التي سدت سبل الرزق في وجه غالبية الناس، وأجبرت الكثيرين منهم على العبور سباحة إلى روزارنو وغير روزارنو..