ارشيف من :أخبار عالمية
خاص الانتقاد.نت: هايتي بين سندان الزلزال ومطرقة بوش وأوباما
تناقض جدي بين أميركا وفرنسا التي تطمح أيضاً إلى وضع اليد على هايتي
عقيل الشيخ حسينبات الكلام متداولاً في الآونة الأخيرة عن ظاهرة يطلق عليها اسم "رأسمالية الكوارث". المقصود هو تلك الرأسمالية التي تنمو وتزدهر عن طريق الاستثمار في الكوارث. وقد جاء الزلزال الذي ضرب هايتي ليخلق مجالاً حيوياً لحركة هذا النوع من الرأسمالية المتوحشة.
ويعج التاريخ بالكثير من أشكال هذا الاستثمار الذي يعبر عن نفسه، في أزمنة المجاعات، بارتفاع أسعار المواد الغذائية، وفي زمن تفشي الأوبئة، بارتفاع الطلب على الأدوية والعلاجات الطبية، وفي زمن الحروب بارتفاع الطلب على الأسلحة... وفي كل زمان، بالاستفادة من حاجات الناس لتسخيرها في خدمة أغراض والهيمنة تحقيق الأرباح الفاحشة.
ويأتي إرسال عشرة آلاف جندي أميركي إلى هايتي يرافقهم مئات "الصحافيين" والعاملين في مجالات الخدمات الإنسانية، بالتوازي مع رفع عديد القوات الدولية في هايتي إلى أكثر من 12 ألف جندي، ليشكل الجسر العسكري لعبور أشكال الاستثمار في الكارثة التي تسبب بها الزلزال. وفي هذا المجال، يتحدث المراقبون عن غزو عسكري جديد لهايتي التي سبق للأميركيين أن غزوها بلا حجة في العام 1888، وبحجة استيقاء ديون مستحقة في العام 1914، وبحجة مساعدتها على استعادة الديموقراطية في العام 1994، وبحجة المساعدة الإنسانية في الحالة الراهنة.
قالحقيقة أن السبل ميسرة، في ظل وجود متمولين دسمين ومطواعين كأكثر ما تكون الطواعية، لاستدراج الأموال "البلهاء" التي ستخصص لإعادة إعمار هايتي. والشركات الأميركية جاهزة وفي أعلى درجات الجهوزية لالتقاف عقود إعادة الإعمار. كما أن ثروات هايتي المتمثلة بالنفط واليورانيوم والذهب والموقع السياحي الاستراتيجي وممتلكات الدولة وحتى المرافق السياحية وغير السياحية المخصخصة ستكون أيضاً من نصيب المستثمرين الأميركيين، في ظل التواجد العسكري الأميركي. خصوصاً وأن باراك أوباما قد أعلن بملء الفم عن أن بلاده تواجه تحدياً هائلاً في هايتي، وأن قيامها بواجبها الإنساني يستلزم أكثر من الأيام والشهور والسنوات.
وبالطبع، فإن الاستثمار الأميركي في كارثة هايتي يستهدف أيضاً أموال دافعي الضرائب الأميركيين. فهنالك تكاليف الغزو التي ستتطلب إضافة زيادة على موازنة الدفاغ من جهة، وهنالك مطالبة الأميركيين بأن يكونوا أسخياء في التبرع لهايتي، من جهة ثانية. هذه المطالبة أطلقها العديد من المسؤولين الأميركيين، ومن ضمنهم الرئيس السابق جورج بوش الإبن الذي عاد إلى البيت الأبيض والتقى مع أوباما الذي أوكل إليه وإلى الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، مهمة الإشراف على إنشاء صندوق لمساعدة هايتي.
عودة جورج بوش تأتي كإشارة واضحة إلى الطبيعة غير الإنسانية للشق غير الإنساني في سلوك أوباما تجاه هايتي. فالمعروف أن الجمهوريين والمحافظين الجدد هم من يسمح لأوباما بالحصول، من أجل تمرير مشاريعه، على الأكثرية المطلوبة في الكونغرس، شرط أن تكون هذه المشاريع من النوع الحربجي.
الإخراج الأوبامي لتشكيل هذا الفريق غير المنسجم من حيث الشكل بين رئيسين سابقين، أحدهما ديموقراطي والآخر جمهوري، تم تحت عنوان هاجس الوحدة : توحيد الأميركيين من أجل مواجهة الكارثة، أو الفرصة الثميتة التي تضرب هايتي. وهذا يشهد في النهاية على ثبات السياسة الأميركية بوجهها العدواني والتوسعي في ظل الجمهوريين والديموقراطيين سواء بسواء.
لكنه يشهد أيضاً على عمق المأزق الذي تتخبط فيه السياسة الأميركية. فالتراجعات المفتوحة على الهزائم هي السمة البارزة لما هو عليه واقع الحال لموقع أميركا على المسرح الدولي. فالانتصارات الأميركية الموعودة منذ إطلاق الحرب على الإرهاب سرعان ما انكشفت عن هزائم مرة أو تورطات قاتلة. في العراق وأفغانستان والصومال ولبنان وغزة والملف النووي الإيراني والصمود السوري وجورجيا وأوكرانيا واليمن والصعود الروسي والتقدم الصيني الكاسح في إفريقيا والخروج السريع لمعظم بلدان أميركا اللاتينية من ربقة الهيمنة الأميركية. إضافة إلى الأزمة المالية وتداعياتها الاجتماعية، وإضافة إلى المأزومية التقليدية للمجتمع الأميركي.
حتى السعي الأميركي لاختطاف هايتي هو مظهر من مظاهر التراجع الأميركي. فهايتي غير البعيدة عن الشواطيء الأميركية كانت تطبخ أميركياً، وخلال عقود طويلة، على نار هادئة تحت ركام مشكلات داخلية جعلت هذا البلد يحتل المرتبة الأولى في مجالات الفقر والفوضى والاهتراء في القارة الأميركية. كانت هايتي، بشكل أو بآخر، حديقة خلفية أميركية مهملة وجاهزة للاستثمار في أية لحظة.
والواضح أن هذه اللحظة قد أزفت في سياق انكفاء أميركا في العالم القديم واضطرارها إلى تحصين باب دارها. لكن هايتي لن تكون النقطة التي يتوقف فيها الانكفاء الأميركي. فأميركا باتت بحاجة إلى تحصين عقر دارها الداخلية، وهذا الواقع يشكل تربة خصبة لتنامي النزعة الأميركية التقليدية المتمثلة بالميل إلى الانعزال عن العالم. وحتى هذه النزعة لن تسمح لأميركا التي حولت العالم، طيلة أكثر من نصف قرن، إلى بقرة حلوب، بالاستمرار في الوجود بغير البقرة الحلوب. وعلى صعيد آخر، يبشر الانتشار العسكري الأميركي في هايتي ببروز تناقض جدي بين أميركا وفرنسا التي تطمح أيضاً إلى وضع اليد على هايتي، بحكم استعمارها الطويل لهايتي، وبحكم امتداد حدودها الماوراء بحارية إلى الكاريبي. وعدم سماح الأميركيين لطائرة مساعدات فرنسية بالهبوط في مطار بورتوبرنس، أثار في فرنسا جلبة قابلة للتطور وللانعكاس سلباً على علاقات الود التي تجددت بين أميركا وفرنسا وأميركا، خصوصاً بعد أن خذلت هذه الأخيرة رائد وجودها المعاصر، الجنرال شارل ديغول. وخصوصاً أيضاً في ظل المناكفات التي يشهدها الناتو في صفوفه الداخلية نتيجة لهزيمته في أفغانستان.