ارشيف من :ترجمات ودراسات
واشنطن وتل أبيب وسياسة الرقص على حافة الحرب
كتب المحرر السياسي
بقدر ما تبدو الصورة مشوشة ومربكة في المنطقة، فإن عملية فرز لألوانها الأساسية، ولعلاماتها الكاشفة والمحددة لوجهتها العامة، من شأنها أن تزيل عناصر التشويش والارتباك هذه لمصلحة صورة يسهل تقدير هويتها النهائية.
والمدخل لهذه العملية لا يمكن إلا أن يكون من خلال مقاربة شاملة لكل ما يجري حولنا، لأن ثمة خيطا مركزيا يربط بين كل عناصر التطورات المفصلية في المنطقة، واستناداً الى هذا المدخل العام، يمكن ملاحظة التالي:
أولاً: المتأمل في مسار التسوية على المسار الفلسطيني يخلص الى جملة استنتاجات مركزية ، هي:
أ ـ ان الولايات المتحدة تولي هذا الملف اهتماماً واضحاً، من دون أن تتوصل الى نتائج حاسمة على صعيد تحريك ملف المفاوضات مجدداً، بفعل التعنت الاسرائيلي من جهة، وكل ما يتصل بها من مواقف واجراءات على الأرض تجعل أي عملية تفاوض غير ذات قيمة، ويصبح مطلب استئناف المفاوضات وسيلة لتحسين الصورة، ولإيجاد الغطاء الملائم لإمرار ما يجب إمراره بهدوء وبدون أي ردود فعل ملحوظة عليه، وفي أحسن الأحوال، العمل على انتزاع تسوية بالشروط الاسرائيلية الكاملة استناداً الى التقدير الذي يقول بأن الوضع العربي ـ الرسمي العام هو اليوم في أسوأ أوضاعه، وأن هناك شهية لدى معظم هذه الأنظمة للتخلص كيفما كان مما يسمونه عبء القضية الفلسطينية.
ب ـ ظهرت السلطة الفلسطينية حتى الأمس القريب بصورة الممانعة والرافضة لاستئناف المفاوضات مع حكومة نتنياهو إلا اذا استجابت لبعض الشروط الأساسية، ما بين استحالة استجابة نتنياهو لمطالب السلطة، وعدم قدرة السلطة على الذهاب الى مفاوضات بلا شروط، وبلا سقف سياسي وزمني واضح، جرى البحث عن مخارج بديلة بين الاثنين تمثلت بالعمل على التفاوض بطريقة غير مباشرة، أو التفاوض من خلال مستويات من درجة ثانية، وحول قضايا وملفات لا تتصل بملفات التسوية الأساسية.
ومؤخراً ، بدأنا نلمس إشارات لدى رئيس السلطة أبو مازن للتراجع عما التزم به مؤخراً، وبتأثير من الضغوط الاميركية والأوروبية والعربية التي مورست عليه لاستئناف التفاوض بدون شروط، وفي هذا السياق، أخذنا نسمع كلاماً حول التسوية مغايراً لما هو شائع، حيث يؤكد أن استئناف العملية التفاوضية سيتم، وان الشهرين المقبلين حاسمان في هذا الاتجاه.
ج ـ فجأة على الأقل بالنسبة لمن يراقب الأمور في الخارج، شاهدنا زيارة لنبيل شعث الى غزة تحت عنوان تسريع عملية المصالحة، ومن المعلوم، وبعيداً عن السياقات والدوافع الخاصة والمتبادلة للمصالحة، ان لها سياقا متصلا بالتسوية أيضاً، اذ لا يمكن للسلطة الفلسطينية ان تذهب الى طاولة المفاوضات في ظل انقسام فلسطيني كبير، وفي ظل نقص كبير في الشرعية، ولذا لا بد من المصالحة لترميم الوضع الفلسطيني، وللتمهيد الى انتخابات أو اجراءات تكفل تعويم شرعية السلطة.
د ـ في ظل مناخ التسوية هذا، كنّا نشهد تصعيدا أمنيا وعسكريا من قبل الكيان الاسرائيلي ضد قطاع غزة ووتيرة التهديدات هنا أيضاً لم تتوقف.
ما هي السيناريوهات المفترضة هنا:
أولاً: ان الاسرائيلي لا يريد التسوية الآن، وهو يهمه استغلال الفرصة الحالية للأخير على صعيد فرض وقائع جديدة على الأرض تتحول مع الوقت الى أمور لا يمكن تجاوزها حتى اذا ما جاء زمن التسوية يكون قد فرض شروطها بقوة الأمر الواقع، ولا سيما أن لا شيء يضغط عليه الآن للمضي في هذه التسوية، لا واشنطن في موضع القادر على ممارسة هذه الضغوط، ولا الوضع العربي كذلك، ولا الوضع الفلسطيني.
ثانياً: ان يكون التقدير أنه الآن توجد فرصة مثلى للتخلص من القضية الفلسطينية وبالشروط والاملاءات الاسرائيلية الكاملة، هذا التقدير يفترض ضمناً تسليما مطلقا من قبل السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية المعنية أو الحليفة لهذه السلطة، بإزاحة الموانع العملية، وتعطيل موانع أخرى، الإزاحة تبدو معنية بها حركة حماس، ما يفتح احتمالات تجدد الحرب على الأخيرة، إلا إذا تصورنا أن حماس ستستجيب لمطلب المصالحة بالوجهة الآنفة، وهذا يبدو مستحيلاً، وأما التعطيل فالمعني به حركة المقاومة ودول الممانعة في المنطقة، وتحديداً حزب الله وسوريا وايران.
ثانياً: المتأمل في مسار التهديدات الاسرائيلية إزاء لبنان وسوريا، يلحظ التالي:
أ ـ الجمع بين لبنان وسوريا في سلة واحدة، من خلال تحميل سوريا مسؤولية مباشرة تتصل بتسهيل إمرار السلاح للمقاومة، وبالسماح لعناصرها بالتدرب على أراضيها.
ب ـ الجمع بين مسؤولية الحكومة ومسؤولية المقاومة في لبنان وتحويل التهديد الى تهديد شامل.
ج ـ التأكيد على أن دوافع التهديد هي النمو المخيف لترسانة المقاومة مع الاشارة المستمرة الى القلق من امتلاك المقاومة لأسلحة تخل بالتوازن الدقيق للصراع.
د ـ تسريب سيناريوهات وخطط حول شكل ومسار الحرب المقبلة واستهدافاتها المركزية لاعطاء التهديدات جرعة مصداقية عملية، ورفع درجة ضغطها النفسي وتوسيع عملية الارباك والتضليل.
هـ ـ المواءمة بين درجة التهديدات وثلاثة أمور رئيسية: قرب ذكرى استشهاد القائد عماد مغنية، ارتفاع وتيرة التصعيد الاميركي والأوروبي ازاء ايران، وأخيراً المناخ المرتبك المحيط بعملية التسوية.
ثالثاً: المتأمل أيضاً في خطوة واشنطن الأخيرة والمتمثلة بنشر منظومة صواريخ باتريوت في عدد من دول الخليج، وإرسال المزيد من قطع أسطولها البحري الى مناطق في مواجهة الساحل الايراني، في ظل المد والجزر الذي تتخذه في ظل عملية التفاوض حول الوقود النووي الايراني.
لا شك، أن لهذه الخطوة سياقها النووي، ولا يمكن عزلها عن لعبة التفاوض المعقدة مع ايران، وبالتالي هي جزء من أوراق الضغط في لعبة التفاوض هذه للتسريع من انفضاضها الى النتائج المطلوبة، إلا أن لها أيضاً أبعادها الأخرى المتصلة بكامل المشهد في المنطقة، وبالتالي، لا يمكن قراءاتها بمعزل عن الرسائل الاسرائيلية التي لم تتوقف لحظة واحدة عن ضخ التوتر في شرايين المنطقة من خلال رفع وتيرة التهديد لكل من حواليها.
خلاصة هذا المشهد العام، تقودنا الى التالي:
أولاً: إننا إزاء عملية توزيع أدوار بين الكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة، ومن ضمن المقاربة الشاملة لملفات المنطقة، الكيان الاسرائيلي يتولى جبهات غزة ولبنان وسوريا، والاميركي يتولى الجبهة الايرانية.
ثانياً: إننا إزاء عملية توسيع للخيارات ما بين الاستعداد للحرب الشاملة، أو النزول الى أرض التفاوض، كل ملف بحسبه.
ثالثاً: اذا أخذنا بالاعتبار أن خيار الحرب الشاملة خيار صعب لأنه غير مضمون النتائج، كما أن مآلاته ستكون مدمرة للكيان الاسرائيلي ولمصالح واشنطن في المنطقة، فلا يبقى أمامنا إلا الاحتمالات التالية:
أ ـ الضغط على دول المواجهة والممانعة للتوصل الى نتائج حيث هناك تفاوض، وهنا يحضر الملف النووي بالدرجة الأولى.
ب ـ الضغوط على هذه الدول لمنعها من معارضة أمور أخرى يحضر لها في المنطقة، وهنا، قد يحضر موضوع التسوية على المسار الفلسطيني.
ج ـ صرف الأنظار والانتباه، بحيث توجه الضربة لجبهة ما، مع ضمان عدم اشتعال بقية الجبهات من خلال تربيطها بالتهديدات.
في هذا الإطار، تأتي أهمية المواقف التي أطلقها وزير الخارجية السوري، والتي أكد فيها ترابط المواجهة على كل الجبهات وعدم إمكان عزل جبهة عن أخرى.
وفي مطلق الأحوال، نحن إزاء سياسة اميركية ـ اسرائيلية سمتها الأساسية السير على حافة الحرب، في محاولة تصعيد لعملية الاشتباك الدائرة في المنطقة حول أكثر من ملف وقضية، الأمر الذي سيشعل المزيد من التوتر الذي من شأنه أن يفضي في النهاية إما الى حالة استاتيكو وادارة دقيقة للنزاعات والخلافات، وإما الى لحظة انفجار مدوية.