ارشيف من :خاص

جيوبوليتيك الصعود الإيراني في المنطقة

جيوبوليتيك الصعود الإيراني في المنطقة

إعداد: علي شهاب

لا يُمكن الحديث عن الأمن العالمي والتهديدات التي يواجهها من دون التطرق إلى منطقة الشرق الأوسط والتغيرات الجيوبوليتيكية التي شهدتها خلال السنوات القليلة الماضية. ولن يكتمل الحديث عن هذه التغيرات من دون تناول دور إيران المتصاعد في المنطقة، والعوامل التي أدت إلى تصاعد هذا الدور. في هذا الإطار يحاول كيهان بارغيزار Kayhan Bargezar، الأستاذ الزائر بجامعة هارفارد وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة "أزاد الإسلامية" بطهران، الإجابة عن مجموعة من التساؤلات من قبيل: كيف يرتبط أمن منطقة الشرق الأوسط بنظام الأمن العالمي؟ وما موقع إيران ضمن منظومة الأمن العالمي؟ ثم ما الأسباب التي أدت إلى تصاعد الدور الإيراني في المنطقة؟ وذلك في مقال تحت عنوان "إيران والشرق الأوسط والأمن العالمي"، نُشر بدورية Ortadogu Etutleri التركية الصادرة عن مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية التركي.

تهديد القاعدة للأمنين الإقليمي والعالمي
على الرغم من أن القاعدة قد شنت هجمات عديدة قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، وأثرت بشكل كبير على التفاعلات الإقليمية، فإن هجومها على مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاجون يعد نقطة تحول في التأثير العالمي لعمليات القاعدة الإرهابية. فلم تعد مواجهة القاعدة مسألة تخص كل دولة على حدة. وبصفة عامة فإن دور القاعدة وجهودها كقوة مؤثرة في قضايا الأمن السياسي في الشرق الأوسط قد ازداد لدرجة أن الحرب على الإرهاب أصبحت الاهتمام الرئيس لنظام الأمن العالمي. وفي هذا الإطار فإن الجدل حول ظهور القاعدة ودرجة وكفاءة نشاطاتها، ووسائل مكافحتها، ارتبط بقضايا أوسع نطاقا، فارتبط الجدل بقضايا الأمن السياسي والقضايا الثقافية ـ الدينية في الشرق الأوسط.
ورصد الكاتب مجموعة من العناصر ترتبط بجهود القاعدة في التأثير على الأمنين الإقليمي والعالمي، تتمثل في:
ـ إشعال الحروب الدينية والانقسامات في العالم الإسلامي.
ـ خلق فجوة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي.
ـ القيام بمحاولات لامتلاك أسلحة دمار شامل.

إعادة تعريف الأولويات الاستراتيجية الأمريكية

من بين العناصر السابقة، "يلفت بارغيزار" الانتباه إلى عنصرين (خطر امتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل، ودور القاعدة في خلق الانقسام بين المذاهب) هما الأكثر تأثيرًا في الأمن العالمي. وفي ما يتعلق بالعنصر الأول: يرى الكاتب أن هجمات 11 سبتمبر الإرهابية قد أعادت تعريف الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة فيما يتعلق بكل من: المعركة ضد الإرهاب، وامتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل، وسياق معاهدة منع الانتشار النووي.
وبرغم أن قضية إرهاب القاعدة كانت موجودة خلال التسعينيات، إلا أن درجة ونوعية وتأثيرات عملياتها بعد هجمات 11 سبتمبر قد حولت العمليات الإرهابية التي تقوم بها إلى تهديد استراتيجي عالمي. كما أن احتمال امتلاك القاعدة لأسلحة دمار شامل وإمكانية استخدامها ضد الولايات المتحدة قد حول قضية القاعدة إلى "تهديد وجودي"، ولذا كان من الطبيعي أن تحول الحرب ضد القاعدة أولويات واشنطن فيما يتعلق بنظام منع الانتشار النووي.
فخلال الحرب الباردة كانت الالتزامات متعددة الأطراف وتحقيق الإجماع هي أسس نظام منع الانتشار النووي. لكن مع وقوع هجمات سبتمبر 2001، أدى نزوع الولايات المتحدة لمواجهة التهديد الوشيك للقاعدة، باستخدام القوة العسكرية، إلى أن تتبنى واشنطن موقفًا مهيمنًا داخل نظام منع الانتشار.
وبالنسبة للعنصر الثاني: فإن دور القاعدة المعزز للانقسامات بين العراقيين لا خلاف عليه. ويعتبر النزاع الطائفي السبب الرئيس لعدم الاستقرار والتوتر المستمر في العراق، وهو ما يرتبط مباشرة بالأمن الإقليمي والعالمي.

الأزمات الإقليمية والتغيرات الجيوبوليتكية الجديدة

أدت الحرب التي يخوضها المجتمع الدولي ضد القاعدة، كما يرى "بارغيزار"، إلى بروز أزمات إقليمية جديدة في أفغانستان والعراق، أنتجت بدورها تطورات جيوبوليتيكية جديدة في المنطقة، بشكل وضع الشرق الأوسط في قلب اهتمامات الأمن العالمي. فالأزمات في العراق وأفغانستان ولبنان قد زادت أهمية قضايا الشرق الأوسط وارتباطه بالأمن العالمي من خلال أمرين: الأول عن طريق تغيير دور الفاعلين الإقليميين والدوليين، والثاني عن طريق تغيير طبيعة التهديدات الأمنية.
وفيما يتعلق بتغير دور الفاعلين على المستوى الإقليمي، يعتبر الكاتب أن الأزمات الإقليمية قد أنتجت تغيرات جيوبوليتيكية في جانبين أساسيين، الأول: ترابط التطورات السياسية في الدول الإقليمية، فمن شأن أي تطور سياسي في بلد ما التأثير على البلدان الأخرى، والثاني: التحول في الدور التقليدي والنفوذ والمصالح الخاصة بالفاعلين الإقليميين وعبر الإقليميين.
وبالنسبة للجانب الأول، يرى "بارجيزار" أن الأزمة الأفغانية قد أدت إلى ارتباط القضايا الأفغانية بالأوضاع في الشرق الأوسط. ففي الماضي كانت القضايا المتعلقة بشمال أفغانستان مرتبطة بمنطقة آسيا الوسطى، وقضايا جنوب أفغانستان مرتبطة بجنوب آسيا وشبه القارة الهندية. ولكن مع الترتيبات الجديدة المتعلقة بأدوار الفاعلين الإقليميين وعبر الإقليميين، أصبحت قضايا الأمن السياسي الخاصة بباكستان أكثر ارتباطًا بالشرق الأوسط وشؤون العالم العربي.
وفي هذا السياق مثلت أزمة العراق نقطة تحول فيما يتعلق بارتباط قضايا الشرق الأوسط، كما شكلت تحولاً في دور الفاعلين.
فمنذ بداية الأزمة، أدى التغير الذي طرأ على هيكل السلطة التقليدي في العراق إلى التأثير على كل تطورات الأمن السياسي في المنطقة. والأكثر أهمية من ذلك، كما يذكر الكاتب، أن التغيير في السلطة العراقية قد أدى إلى زيادة النفوذ الإيراني في البلاد، كما أدى إلى تدخل الدول المجاورة.
وفي ما يتعلق بتغير أدوار الفاعلين على المستوى الدولي، يرى الكاتب أن التطورات الجيوبوليتيكية الجديدة قد أدت إلى أن يمارس الفاعلون عبر الإقليميين مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين دورًا أكثر فاعلية في المنطقة استنادًا إلى مصالحهم الوطنية والدولية؛ المتمثلة في أمن الطاقة، أسلحة الدمار الشامل، منع الانتشار النووي، ومواجهة إرهاب القاعدة.
فقد أصبحت دول الاتحاد الأوروبي، نتيجة للأزمة في أفغانستان، أكثر انخراطًا في الشؤون الأمنية الخاصة بالمنطقة. إضافة إلى ذلك، فإن المصالح الاقتصادية المتنامية للاتحاد الأوروبي في الخليج العربي قد أرغمته على لعب دور أكثر نشاطًا في العراق والعالم العربي وفي العلاقات مع إيران. كما أن ارتباط الاتحاد الأوروبي الدبلوماسي بالأزمة النووية الإيرانية قد أعطاه دورًا فعالاً في الشؤون الاستراتيجية والسياسية في الشرق الأوسط.
وفي الوقت ذاته فإن التطورات الأمنية ـ السياسية، التي شهدها الشرق الأوسط، قد أعطت لروسيا والصين فرصة لتشكيل دور أكثر تأثيرًا في شؤون الشرق الأوسط، كما يذكر الكاتب. فالتطورات الجيوبوليتيكية الجديدة، إضافة إلى بعض القضايا الاستراتيجية مثل البرنامج النووي الإيراني وأمن الطاقة والأزمات في لبنان وفلسطين، مهدت الطريق بشكل ما أمام عودة روسيا للشرق الأوسط. ويجادل البعض بأن الأحادية التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع الأزمات الإقليمية والأزمة النووية الإيرانية قد وفرت الفرصة لموسكو للعب دور كبير في القضايا الإقليمية.
وقد أدت التطورات الإقليمية أيضًا إلى زيادة تأثير الصين في الشرق الأوسط. وعن طريق زيادة حضورها الاقتصادي في الشرق الأوسط خلال العقود الماضية، رسخت الصين من دورها الاستراتيجي في الديناميات الإقليمية التي ظهرت بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001.
والأهم من ذلك، وفقًا لبارجيزار، أن البرنامج النووي الإيراني والعقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي قد أعطت بكين تأثيرًا أكبر في قضية الملف النووي الإيراني. فالتهديدات المتزايدة من قبل الولايات المتحدة ضد إيران من خلال العقوبات التي فرضها مجلس الأمن قد دفعت الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا.
يركز "كيهان بارجيزار" في الجزء الثاني من دراسته على التغيرات التي طرأت على البيئة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، والتي أدت بدورها إلى تزايد النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط. ويشير إلى أن تصاعد الدور الإيراني في الشرق الأوسط بدأ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والذي تعزز مع بدء الحرب الأمريكية على العراق وما تبعها من أزمات سياسية وأمنية، يجد جذوره الأولية في الأهمية المتزايدة لقضايا الشرق الأوسط بالنسبة لنظام الأمن العالمي. كما يعتبر أن السمات والخصائص الجيوبوليتيكية الطبيعية لإيران، والهيكل التاريخي والثقافي والديني لقوتها، قد جعلت من طهران أحد أكثر البلدان تأثيرًا في الشرق الأوسط.

تغير طبيعة التهديدات الأمنية

تمثل الأثر الثاني الذي أنتجته الأزمات الإقليمية التي شهدها الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر 2001، في تغير اتجاه كل من طبيعة وموقع تهديدات الشرق الأوسط وشؤون الأمن السياسي.
فقد كانت شؤون الشرق الأوسط متركزة بشكل تقليدي ورئيسٍ حول العالم العربي، وتحديدًا على الجانب الغربي من المنطقة، خاصة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكانت الأوضاع في تركيا وإيران تبدو هامشية.
لكن تطورات الأمن السياسي الجديدة بعد أحداث 11 سبتمبر قد أعادت تركيز قضايا الشرق الأوسط على الشرق والخليج العربي.
كما أن القضايا التقليدية الخاصة بسياسات النفط وأمن الطاقة ودعم المصالح الإسرائيلية، لم تعد تحظى بالتركيز الأساسي بالنسبة للأمن العالمي. ففي الوقت الحاضر أصبحت التهديدات الأمنية الجديدة مركزة على الهوية والأزمات الاجتماعية، والتطرف الاجتماعي، والجيوبوليتيكا الإثنية والإيدولوجيا الدينية، جنبًا إلى جنب مع دور الجماهير في الاقتصاد والسياسة.
بعبارة أخرى فإن قضايا الشرق الأوسط أصبحت بعد الحادي عشر من سبتمبر أكثر عمومية وارتباطًا وتدويلاً لدرجة أن الشرق أصبح العنصر الأكثر أهمية في الأمن العالمي.

الصعود الإيراني في الشرق الأوسط

يرجع الكاتب تزايد دور وقوة إيران التفاوضية في شرق أوسط ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، إلى سببين أساسيين، أولهما: الجغرافيا وطبيعة التطورات الجيوبوليتكية التي انبثقت عن أزمة العراق في عام 2003، والتي جعلت من إيران المحور الرئيس لشؤون الأمن السياسي في المنطقة.
لعب الموقع الجيوبوليتيكي الإيراني دورًا هامًّا في الحرب ضد القاعدة، من خلال أمرين، الأول: المساعدة في إزاحة طالبان، والثاني إغلاق طرق تسرب قوات القاعدة منذ عام 2001. فعن طريق توفير معلومات أمنية واستخباراتية للقوات الأمريكية، ودعم قوات تحالف الشمال الأفغانية، لعبت إيران دورًا محوريًّا في الإطاحة بطالبان. وبعد سقوط طالبان، تعاونت إيران مع المجتمع الدولي في عقد مؤتمر بون، كما ساعدت في تشكيل الحكومة الأفغانية الجديدة وساندتها في المرحلة الانتقالية التي مرت بها، أثناء إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
وفي المرحلة التي تلت ذلك ساعدت إيران المجتمع الدولي عن طريق إغلاق طرق تسرب وانتقال قوات القاعدة من خلال أراضيها.
ومع تفشي الأزمة العراقية وتطورات الأمن السياسي التي نجمت عنها في المنطقة، أصبحت أهمية إيران الجيوبوليتيكية، كمحور لديناميات الأمن الإقليمي، أكثر وضوحًا. فطول الحدود مع العراق قد أعطى لإيران موقعًا استراتيجيا فريدًا فيما يتعلق بالأزمة العراقية.
كما أن حياد إيران الإيجابي خلال الأزمة العراقية ودعمها للعملية الانتقالية العراقية، إضافة إلى دعمها لمحاولات الحكومة العراقية تحقيق الاستقرار في البلاد، قد أضاف إلى دور إيران الإقليمي.
والأكثر أهمية، كما يذكر الكاتب، أنه مع تكوين حكومة عراقية جديدة، تحول كل من العراق وإيران ـ برغم التاريخ الطويل من الحرب والعداء ـ إلى دولتين صديقتين وشركاء إقليميين. ويعتبر الكاتب هذا الأمر بمثابة "تطورٍ جيوبوليتيكي مهمٍّ في الخليج العربي من شأنه تعزيز دور إيران في المنطقة".

2010-02-19